العقلُ يفقدُ صوابه
تطالعنا في كل يوم أحداث ٌ جديدة ٌ، ونستبشر باستقبالها لعهلها تأخذنا نحو الأفضل ، وتعمق إحساسنا بما هو أجمل وأبدع.إننا نريد حتما أن نختطف من كل ليلةِ تمضي، النجمة َ التي تبعث بريقا أسطع، ونحفظ منها الحلم الأروع. لأن نفوسنا على حب الحياة تنشأ، وبإحراز الأمل تهنأ. هذا ما نستجديه من لقاءاتنا حتى اليومية:"شنية أحوالك؟" " أيا آش عندك جديد؟" " تي وينك؟" هي أسئلة دارجة قد لا تلقى بالضرورة لمعرفة ما عند الشخص المقابل ولكنها مناسبة يُطلب ُ منها سماعُ الأخبار المبشرة باليوم السعيد. على خلاف ذلك تجد الفرد نفسه قد عبر عن تململه وانزعاجه لكلمة بسيطة قيلت لكنه لا يتذوقها أو لشخص بريء يعترضه لكنه لا يرتاح له، أو لخبر عادي ينقل لكنه لا ينتظره فيعبر عن خوفه من نحس ذلك اليوم فيردد "إنشاء الله خير" " ع الصباح والرباح" ...
أليس هذا ما يلخص طباع التونسيين وانتظاراتهم من الحياة ومن الأيام التي يفتتحونها دوريا؟ أليس الأمر يحتاج أن نلبي ما يسكنهم من رغبات لا تتعدى التبشير والإحساس بالتفاؤل ونتلطف عليه عند نقل ما لا يتواءم وهوى نفسه؟
قامت الثورة في تونس وبدأت تشق طريقها متقدمة. أوقعت في البلاد تغييرات :هزت الناس والعقول، وحركت سلوكهم وأفكارهم كما يحرك المجذاف ماء البحر الهادئ. فأصبحت تستمع إلى أصواتهم هادرة ، وتتقبل كلماتهم مرتطمة لا يعجبهم المدح ولا يغنيهم الوعد تراهم معتصمين ومضربين لا يفكون عن شكوى ولا يقطعون مع ألم، يطوقون البلاد بالمطالب ويتذمرون من خيبة الآمال.حتى يتسرب الشك إلى البعض في مقاصد ما يطلبونه أهو عن حاجة حقيقية أم رفض للواقع الجديد؟
يساعدنا في طرح السؤال ذاك أن التونسيين الذين قد عاشوا قبل الثورة هم أنفسهم يواصلون العيش بعدها. وأوضاعهم الراهنة من التهميش والفقر والإهمال والوعود الكاذبة هي ذاتها في العهد السابق. ومع ذلك فإننا لم نجد منهم نفس الدرجة من الاحتجاج والتعبير عن واقعهم المزري و السوداوي.لقد كانوا في الظاهر قابلين بما قيد الله لهم في الحياة يكتفون بما عندهم ويتمثلون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أصبح آمنا في سربه معافى في جسده عنده طعام يومه فكأنما حيزت له الدنيا " فيحمد الله على ذلك ويشكره وفي دفعة من الأحداث كأن ما اتصف به لم يكن وبات كثير التذمر ودائم الشكوى فمم تكون له ذلك؟ ومن أين نتج عنده؟
إن هذا الجديد عند التونسيين يصيبهم من جراء تلك الحساسية المفرطة عندهم يتفاءلون بسرعة ويتشاءمون أسرع : قدمت عليهم الثورة فبنوا عليها آمالا عالية وأحلاما زاهية ولكنهم يكتشفون الواقع غير ما يتصورونه وبنوا عليه آمالهم فيعودون بالسخط على من يرونه السبب : إنه صاحب الحكم الذي علق قلوبهم بالأمل ثم أخل بهم. ولسان حالهم يقول ما قاله الشاعر:
مــاذا لقيــت مـن الدنيـا وأعجبـه *** أنــي بمـا أنـا بـاك منـه محسـود
أمســيت أروح مــثر خازنـا ويـدا *** أنــا الغنــي وأمــوالي المواعيـد
قد يكون في ذلك نصيب من الصواب ، ذلك أن الحكومات المتتالية قد أخطأت ولم تتصرف حسب الظروف والمقامات فأصابها ما يصيب الشعب في غالبه :ذهب عنهم صواب العقل ولم يقدروا الواقع بقدره ولم يفهموا المجريات الداخلية والخارجية ولم يحسنوا التواصل فأفلت الزمام من أيدينا جميعا وأولينا المصلحة الفردية َ عناية قبل المصلحة العامة بانين إياه على الفصل بينهما ولم ندرك أن الفائدة متى أصابت الكل انتفع الجزء بها وأن الحبات عندما تنفلت من عقدها فإن ضياع بعضها لن يرجع للعقد تنظمه الأول.
فتصبح الطامة الكبرى في فقد العقل صوابه لا ترجع إليه العامة ولا تحكمه ولا تعتبره ميزانها في التمييز بين الخير والشر وتصبح الحياة بعدمه لأنفع كما قال الشاعر
ما وهب الله لامريء هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن عدما ... فإن فقد الحياة أنفع به
هما جمال الفتى فإن عدما ... فإن فقد الحياة أنفع به
أزال الطمع في البلاد كل أثر للتفكير وأحدث غشاوات لم تعد تعرف بموجبها الصواب بل إن هذا الطمع في نيل الحكم وإقصاء الآخر جر وراءه مناصرين يرون ما يرى قادتهم يتبعونهم كالعميان من جهة ومعارضين ينزلون عليهم جام غضبهم ويسفهونهم ويهربون عنهم هربهم من الموبوء من جهة أخرى. كل يصدر منه عذب الحديث وشتى الحجج حتى أنك تقول الرأي ما رآه فلان. لا تظنن أن السلفي يحاورك ولم يتجهز بحججه وكذلك العلماني واللإسلامي والمندس وإلا ما كنا لنرى لهم أتباعا ما يعني أنهم يملكون الحجة ولكنني لا أدعي أنهم يملكون العقل الذي إذا تدخل أصلح ذات البين ولم يزد في الشقاق على منوال ما يحدث في تونس وفي مصر وغيرهما حتى ولو كان صاحب العقل عدوك كما يقول الشاعرُ
عدوك ذو العقل أبقى عليك ... وأبقى من الوامق الأحمق
إذن ما نراه لا يعكس أن الطبقات السياسية تسعى أن تحافظ على سلم البلاد وعلى هدوئها بل لا نراها إلا تختص في إشعال الأحداث وفي التجميع للفتن والانقسام في ميادين وساحات مختلفة إيذانا بفتح جديد يدعيه كل فريق ويتوهمه. فيهملون الدعوات الصريحة إلى نبذ الفتن ويتغاظون عن الأحاديث التي عرفت أن المسلمين اخوة ما يقرب بينهم أقوى مما يفرق : قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثَل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمَّى" وقال كذلك: "ألاَ أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة
والصدقة؟، قالوا: بلى، قال:إصلاح ذات البَيْن، فإنَّ فساد ذات
البَيْن هي الحالقة"
ورُوِي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال:"هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين" أفبعد هذا القول لكل مسلم من بيان هل يصلح أن نخالف دعوة رسولنا في سبيل إرضاء غريزة تعمي عن العقل وتصمي وتنتج خلاف ما أمرنا به ربنا عز وجل: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].لقد فقد العقل صوابه فأصبحنا ننادي بالفتنة بدل الاعتصام بحبل الله جميعا.
مظهر آخر من مظاهر إفقاد العقل صوابه : هو ذاك التحامل وإلقاء التهم غير المضبوطة وإرفاقها بمعلومات كيدية يصطنعها أحد المنقسمين لأجل إسقاط الطرف الآخر وهو مبتهج يردد: هل بعد ذلك الوضوح وضوح آخر؟ لكن الغريب في الأمر أن أحدهما لم يسقط بل ما زلنا نتتبع حلقات هذا المسلسل الرمضاني ذي الأجزاء المتعددة التي ستتواصل ولن تعرف حدودها إلا بعودة العقل الذي فقد صوابه. حقيقة هؤولاء صناع الفتنة أبدعوا ما لم يقدر عليه غيرهم لقد أصابوا العقل بالجنون وأصبح مكانه الأولى مستشفى المجانين ولا عجب فقد فقد صوابه. انظر إلى المختلفين كيف يملأون رؤوسنا بالمعلومات حول نفس الحدث حتى أن العقل السليم نفسه يتشوش ويفقد قدرته على التعليل و التحليل والتصحيح والتبين حتى لقد كثر الفساق وبات لزاما علينا أن نتبين كل خبرٍ خشية أن نصيب قوما بجهالة لكن كم يلزمنا لنعرض هذه الأخبار على التبين؟الحقائق سوف تغادر أماكنها ولن يمكنك استرجاعها لأنها أصبحت من ممتلكات الماضي الذي غابت أدلته وأسراره. لعلهم أفلحوا وأفقدوا العقل صوابه وتركوا تونس تشتكي وتتألم ولا من يجفف دموع حزنها. أصابوها في مقتل كأنهم يرجون لها ما تنبأ به الزعيم المصلح لتونس عندما وضع عنوان كتابه "تونس الشهيدة" هكذا هي الأم أحينا تحمل ابنها وتضعه كرها وتسهر الليالي تجوع ويشبع وتمرض ويشفى ولكنه إذا ما بلغ الرشد فإنه يكافئها بالعقوق، كذلك تونس تحتضننا وفيها شهدنا مرابعنا ومراتعنا حيث لعبنا وشببنا لكننا نأتي اليوم لنغرس في حضنها سكاكيننا لتتألم هي ونبتهج نحن بما يتحقق لنا : لا أرضى بحكم الحاكمين وسأهزمهم وأسقطهم ، لا تعنيني المؤسسات إنها فاشلة سأمحقها المسار الديمقراطي ضعيف سأفنيه. تساله ما البديل يجيبك نعود إلى الصفر ثم سترون أننا سنجتمع ونتوافق ونسير البلاد كما نريد.
حقا فقد العقل صوابه ولم يعد يفقه قوانينه التي تقول إن الهدم والفساد سهل ولكن البناء والإصلاح كلاهما عسير ومن منا لم يجرب رؤية ما يتم هدمه في دقائق أو ساعات كم يستغرق وقت بنائه من أيام أو أعوام. لقد فقد العقل صوابه وما عاد سبيله واضحا.
ما ذكرناه يصور أن دعاة الفتنة التي أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ان نتركها فهي نتنة يتقنون الهجوم على ابن البلد من هو في حكم العدو فيذمونه ويشتمونه ولا يصحو ضميرهم فيعودون عما هم عليه بل يزيدون في غيهم ولا يستخدمون عقولهم فيدركون أن سب المسلم للمسلم حرام عليه أن لا يتناول دمه وعرضه ودينه ينبغي أن تأخذه به رحمة ويعلم أن لا سبيل للأهداف النبيلة التي يتبناها الجميع إلا اعترافنا بالآخر وتعايشنا معه. إنهم قد أحسنوا في شيطنة الاخر وهم أنفسهم يحسنون التملص من كل مسؤولية:تسألهم من قتل الشهيد؟ فيجيبون نحن أبرياء براءة الذئب من دم يوسف لكننا نعرف الجاني جريمته واضحة لا تحتاج إلى التحقيق إنهم الجالسون هناك. تسألهم من الفاشل؟ فيردون لسنا نحن بل هم الفاشلون أبناء الفشلة. تدعوهم إلى الوحدة فيسخرون منك ويقولون لك أورأيتنا مفترقين؟ تدعوهم إلى الحوار فيذكرون أنهم طالما تمسكوا به لكن الجانب الآخر يفشله. يذكرونني بقول الله عز وجل في المنافقين: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يعلمون.) [ البقرة : 8 - 12 ] هكذا يفقد العقل صوابه لأن الٍاي السليم يقول إن ٍايي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري صواب يحتمل الخير ويقول لا وجود للتعميم الذي يحصل إما كله شر وإما كله خير وإلا ما اعتبرنا البشر بشرا وصنفناه ملكا أو شيطانا لكن الواقع التونسي يخلو من ذلك أنا ملك وغيري شيطان.
يفقد العقل صوابه عندما يدعي كل أنه الوطني ويصم آذاننا بشعاراته ومدحه لتونس. لكنني أجبر على أن أستمع إلى الحديث فأصدق وارى الأفعال فأستغرب هل الوطني من يردد نشيد تونس داعيا على من يخونها وليس من جندها وهو يعيش فيها ثم يضرب ويشل الحركة ويغض البصر عن المهرب والمخطئ هل الوطني من يرضى السجن لغيره بسبب لحية اطالها ؟ هل الوطنية في أفعال الشغب وفي حرق المقرات ومنع الاجتماعات؟
يفقد العقل صوابه عندما يدعي بعضهم أنه المدافع عن الدين ثم يأتي ويشتم هذا ويكفر ذاك ويحرص على إقرار الحق بالقوة ويقدمه على القول الحسن فبدل أن يقرب ينفر وعوض ان يجمل يقبح : يسعى إلى الإصلاح ولكنه يفسد كمحمد بن تومرت خاطب الناس بالدين ودعاهم إلى إسقاط المرابطين أهل الكفر ودعاهم إلى القبول به حاكم الموحدين فماذا جنينا من دعوته سوى القسمة والتفكك أو الخسارة لبلاد الأندلس التي بدأت تعود ولاية واحدة تابعة للمرابطين؟ نعم بسبب إخلاص الموحدين في الدعوة إلى الله لكنهم بطريقة شديدة كانوا العامل الأساسي في فقدان الندلس وحدتها وأصبحت من جديد مفككة بين ملوك الطوائف. لا ننكر إخلاصكم أيها السلفيون لكن لابأس أن تراجعوا طرق دعوتكم للتةنسيين حتى تصبح أكثر ملاءمة لانتظاراتهم واتبعوا في ذلك سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
يفقد العقل صوابه مع الطرف النقيض عندما يدعي أنه ينتسب إلى الحداثة ويدافع عن حق الآخر في حريته ثم تجده يصوب سهامه إلى فئات من أبناء الوطن ينادي بسجنهم وقمعهم جميعا غير مميزين بين من اقترفت يداه ذنوبا أو من أخذت يداه المكنسة ونظفت الشوارع. تجدهم أول المنادين بضرورة تكريس السلوك الديمقراطي ثم تراهم في أول فرصة يكفرون بالديمقراطية وينتجون العلل لعدم الاعتراف بنتائجها بل يتخذون إجراءات وينفذون حملات من شأنها أن تعطل السير الديمقراطي الذي يكادون ينفون انتساب غيرهم إليه. إنهم يضعون أنفسهم في صف المعارضة وينقدون الحكومة صباحا مساء بدعوى الدفاع عن مصالح الشعب المقهور الذي فقد في ظلها أي مقوم للعيش. نبارك ذلك منهم وننتظر منهم الحل والبديل غير أننا نكتشف أنهم أضعف من أن يملكوا جوابا يغطي النقص عند من في سدة الحكم.
اهل الحكم أنفسهم لا تخلو سيرتهم مما يفقد العقل صوابه يتبجحون علينا كلما ظهروا أنهم لم يأتوا على ظهر الدبابات وأنهم موجودون بسبب صندوف الانتخاب. هذا مقبول ولكن هل يعني هذا أنهم صنعوا لأنفسهم مناعة تحميهم إلى أبد الدهر؟ لا أظن أن الانتخابات وحدها الصانعة للشرعية بل إنها تحتاج إلى المشروعية التي تفتكها بالإنجازات ولا بالبقاء اليوم بكامله في الوزارات ولا تصنع ما يرضي عامة الناس. قد يخاطبون العقل هنا ويجدون التعلل بالتعطيلات الشعبوية والمعارضوية وقد يتعللون بالمرحلة الصعبة على البلاد وعلى المحيط الإقليمي والعالمي. لكنهم ينسون أن الشعوب لا تخاطب بالعقل وإنما آلة الحاكمين لإقناع محكوميهم ماذا أنجزنا. هكذا خلد التاريخ أمجاد السابقين الذين لم يظهروا في مراحل السلم والهدوء بل سيروا بلدانهم وقت الحروب والنزاعات والأمراض الاجتماعية صارعوها كلها وانتصروا عليها وأقاموا الحجة أنهم الأجدر بالحكم.
إذن أيتها الحكومة لم ينتخبك الشعب لتقدمي له الأعذار بسبب الفشل بل لتصنعي له المعجزات وتنيري السبيل للإصلاح القادم ككل بناة الدول غاندي ولينين ومانديلا وحتى بورقيبة جميعهم بنوا أمجادهم في ظل التعثر والفراغ والفزع الأمني جميعهم قدموا المثال في العزيمة وفي النجاح فماذا قدمتم من أمثلة سوى أنكم تشتكون وتعبرون عن عجزكم وتمنون علينا أنكم أخذتم الحكم في وقت تنوء الجبال عن أخذه.
تسجلون علينا أنكم حكام الثورة ولم تقدموا إنجازات ذات بال تعكس فعلا أنكم حكام الثورة. دُعيتم إلى إصلاحات ثورية في كل القطاعات فلم تلتزموا بها وطولبتم بالعمل على تخليص البلاد من آثار الفساد الذي عشش عندنا منذ عقود فأذررتم الرماد علينا ببضع شخصيات سجنتموها وتعللتم بأن سابقكم رشق لكم الأشواك ونثر العقارب في الطرق فماذا تصنعون أنتم إذن إذا لم نكونوا مؤهلين لفض هذا كله.
الخطاب القاسي ضد الحكومة لا يعني الوقوف في صف المعارضة بل العكس إنها تتحمل مسؤولية اخلاقية لأن ذنب من في الحكم العجز والضعف وأياديهم المرتعشة بينما ذنبكم أيها المعارضون تحملون معاولكم وفؤوسكم لا للحرث وحفر قواعد البناء بل للمشاركة في الهدم وقلع الجذور وشتان بين من يهدم ومن يعجز.
للأسف تلك قوانين الحياة أدوات الهدم فيها أنجع من أدوات البناء دوما لذلك فإن المعارضة قد ولت نفسها إلى مهمة إسقاط الحاكمين وسخرت الأموال والشحن والإعلام الذي كان ضدها فأصبح يواليها والسبب أنهم استفاقوا على عدو مشترك حاكم يدعي أنه يحكم باسم الدين. فأصبحت ترى نتيجة ذلك المنبر نفسه والمصدح ذاته والاستوديو عينه بالبشر المشرفين جميعهم ينقلبون دفعة واحدة ويخاطبون من القنوات نفسها جمهورهم بلغة مخالفة للغتهم في العهد السابق ومنع الصحفيون أن يملك أحد أمرهم ودافعوا عن ذلك في دار الصباح وفي المؤسسة الإعلامية العمومية فلم يسمحوا لغيرهم أن يتدخل فيهم بتعلة أنهم هم من سيبادرون إلى الإصلاح فإذا بهم يكسبون معركة حرية الإعلام ويصطنعونها سلاحا يحفضون به مركزهم ويفرقون الحقائق بحسب برامجهم ويقفون مع هذا وضد ذاك غير عابئين بشروط المهنية والحرفية والمصداقية وغير منتبهين لدورهم الحقيق في خدمة المواطنين وإنارة سبيلهم وتهدئة الأوضاع متى تجاوزت حدها واللفت للأنظار إذا غفلت عن جوهر اهتماماتها إلى التوافق والوحدة وإصلاح التعليم والضغط من أجل وضع خطة تنمية واضحة المعالم واستقصاء الأخبار الواردة لمعرفة الحقيقة وعدم وقوفها في مستويات الاتهامات العامة . الخلاصة أن وظيفة الإعلام اتجهت في تونس وفي مصر إلى التلاعب بالعقول والقلوب وساهمت في أن يفقد العقل صوابه فلا يميز بين الحق والباطل بل إن وسائل الإعلام تعودت التضخيم حتى تغلب الواقعة الصغيرة أو الكبيرة صورة الوضع العام فتصبغها بحالتها: يخيل إلى متتبعيها أن تونس في فوضى عارما لا يستتب إليها الأمن تكاد تفقد أبسط مقومات الحاة في حين أن الموقف في الواقع مجانب لذلك حيث الحركة اليومية تسير حركتها العادية من عمل وتعليم وتسوق وسفر وسياحة مع بعض الحذر.
لقد أصاب الإعلام التونسي بوسائله في صنع الأحداث المعتمدة على المبالغة وعلى استدعاء شخصيات الإثارة والتهديد والبكاء وفي المقابل وصد الأبواب أمام النوابغ وأمام القامات والخبراء إلى درجة أننا اعتدنا على تجهيز أنفسنا إلى الإنصات إلى عدد من الشخصيات القليلة هي نفسها تتجول بين الإذاعات والتلفزات لا لتبشر بل لترعب الناس وتروعهم من المصير السود الذي يهددهم منذ ثلاثة أعوام ولما يحل بهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من روع مؤمنا لم يؤمن الله عز وجل روعته يوم القيامة." فمتى ينتهي ذاك الخطاب التعبوي والترويعي ويحل محله الخطاب الهادئ والتوعوي الذي يرشد التونسيين نحو الأفضل برغم الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا؟
ليتحقق ذلك يجب أن يعود للعقل صوابه ويميز للتونسيين ما به صلاحهم وفسادهم ويخاطبهم القادة بلغة العقل لا بلغة الطمع والحقد والكراهية ينبغي أن تصدر من الشعب حملة واسعة لنبذ الحاقدين والمعرقلين يجب أن يستثمر التونسيون ما أثبتته التجارب من طباع خيرة فيهم ظهرت من هبات للأسف بدت مناسبتية وليست عادة جارية ٍاينا الهبة الأولى مع هروب بن علي وانسحاب الشرطة كيف انضم كل التونسيين إلى بعضهم وحملوا آلات الدفاع البسيطة يحمي فيها السلفي اليساري وياخذ فيها الفار من السجن بيد جارته أم البنات اليتامى. لكن هذه التجربة تمر ولا نستثمر محاسنها فتنقلب إلى تفكك وانقسام وفتنة.
الهبة الشعبية الثانية تمثلت في إقبال التونسيين معظمهم ليقفوا جنبا إلى جنب مع إخواننا اللاجئين من ليبيا ولم يسألوهم أمعكم سلاح أم معكم أموال بل العديدون فتحوا ديارهم واستقبلوا فيها العائلات الليبية وبالتوازي تدافع الناس لتقديم قوافل المساعدات الى اللاجئين في المخيمات فاعتززنا جميعنا من جديد بعد الثورة أننا تونسيون فسهم تلك النحة الكبيرة للخير التي أطلت من جديد في مساعدة التونسي لأهله من أبناء الوطن بعد أن أغدق الله علينا من خيراته وسقانا ماء غدقا نتذكر أن الإعلام وظفه بطريقة رخيصة لكن المواطنين الخيرين سارعوا من جميع الأنحاء وقدموا لإخوانهم ممن سموهم بالمنكوبين في ذلك الوقت فكانت تلك الهبة الثالثة.
هذه الهبات التي تم ذكرها مثال للحياة التي نريدها أن تسود في البلاد وتعمر تغلب حياة التكافل والتقارب على حياة الانشقاق والانقسام تساعد على الفعل الحسن لا الفعل المدمر ينبغي لتلك الاندفاعات أن تكون المثال والدرس ولدفع التونسيين نحو المصلحة واستخدام العقول.
نتساءل ختاما أين نحن من تلك الهبات الثلاث ونحن نعيش لحظة فارقة تعرف بلادنا فيها الاغتيالات السياسية والقتل الغادر لأبناء من وطننا أو من جنودنا على الجميع أن يستفيقوا ويعيدوا للعقل اعتباره قبل أن نصبح محتاجين إلى أخذ العبرة ونحن في عمق الأزمة ولا نجد حلا ولا نريد أن ينطبق علينا القول:" إذا أراد الله نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقل عقولهم فإذا أنفذ قضاءه وقدره رد عليهم عقولهم ليعتبروا"
نزار الديماسي