تحليل قصيدة : لهذا اليوم بعد غد أريج
لهذا اليَومِ بَعْدَ غَدٍ أرِيجُ
|
وَنَارٌ في العَدُوّ لهَا أجيجُ
|
تَبِيتُ بهَا الحَواضِنُ آمِنَاتٍ
|
وَتَسْلَمُ في مَسالِكِهَا الحَجيجُ
|
فلا زَالَت عُداتُكَ حَيْثُ كانَت
|
فَرائِسَ أيُّهَا الأسَدُ المَهيجُ
|
عَرَفْتُكَ والصّفُوفُ مُعَبّآتٌ
|
وَأنْتَ بغَيرِ سَيفِكَ لا تَعيجُ
|
وَوَجْهُ البَحْرِ يُعْرَفُ مِن بَعيدٍ
|
إذا يَسْجُو فكَيفَ إذا يَمُوجُ
|
بأرضٍ تَهْلِكُ الأشْواطُ فيهَا
|
إذا مُلِئَت من الرّكْضِ الفُرُوجُ
|
تحاوِلُ نَفْسَ مَلْكِ الرّومِ فيهَا
|
فَتَفْدِيهِ رَعِيّتُهُ العُلُوجُ
|
أبِالغَمَراتِ تُوعِدُنَا النَّصارَى
|
ونحنُ نُجُومُهَا وَهيَ البُرُوجُ
|
وَفِينَا السّيْفُ حَمْلَتُهُ صَدُوقٌ
|
إذا لاقَى وغارَتُهُ لَجُوجُ
|
نُعَوّذُهُ مِنَ الأعْيَانِ بَأساً
|
وَيَكْثُرُ بالدّعاءِ لَهُ الضّجيجُ
|
رَضِينَا والدُّمُسْتُقُ غَيرُ رَاضٍ
|
بمَا حكَمَ القَوَاضِبُ والوَشيجُ
|
فإنْ يُقْدِمْ فَقَد زُرنَا سَمَنْدُو
|
وَإن يُحْجِمْ فمَوعِدُنَا الخَليجُ
|
المقدمة:
على خلاف الشعراء المعروفين بالحماسة يبني المتنبي
قصيدته " لهذا اليوم بعد غد أريج..." قبل اندلاع الحرب بمناسبة غزو سيف الدولة للروم سنة
تسع وثلاثين وثلاثمائة، أي بعد سنتين من إقامته عند الحمدانيين تساعد على تكوين
معرفة عميقة بالأمير هذه القصيدة مقتطفة من الديوان صفحة واحد وسبعين ومائتين شرح
العكبري فيها يحمس سيف الدولة ويستشرف نتيجة الحرب واعدا إياه بالنصر ومتوعدا
العدو مرهبا إياه.
فما هي آليات
التحميس الإيقاعية خاصة ؟ وما هي المعاني الحماسية حين يمدح المتنبي سيف الدولة؟
وفي المقابل كيف يخدم الهجاء الحماسة في القصيدة؟
الجوهر
لهذا النص وحدات ثلاث نميزها اعتمادا
على توزيع الضمائر ابتداء من البيتين الأولين حيث يستعمل الشاعر الغائب يعود على
اليوم وعلى النار ليكون استشرافه للقادم من الزمان ثم يتم استعمال الخطاب المباشر
: أنت للتعبير عن ثقة الشاعر في سيف الدولة حتى البيت السادس وتبقى الأبيثات الأخيرة
يعبر فيها المتنبي بالضمائر التي تعود على الروم وعلى قائدهم ليسخر منهم.
آليات التحميس قد تكمن في الجانب
الإيقاعي الذي ينقسم إلى خارجي وداخلي: أما الخارجي فيرتكز على البحر وهو الوافر
القائم على تفعيلة واحدة يختلف مع الطويل والبسيط من البحور المركبة والثقيلة.
يعتمد المتنبي هذا البحر بحكم أنه يسبق الحدث ومازالت لا تتوفر له المادة التي
يستثمرها من أجل التعبير وهو ما يلتقي حتى مع حجم القصيدة وطولها باعتبارها قصيرة
وقليلة العدد أبياتا خلافا لقصائد غيرها ذات عدد كبير من الأبيات. هل يعني هنا
الحديث أن البحر لا يحقق وظيفته ولا يساهم في إثارة الحماسة؟
البحور الخفيفة
تؤدي دورها لا شك في الحماسة خاصة إذا كانت تسبق لحظة المواجهة ووقت القتال، لا شك
أن الظرف الذي يخص القصيدة هو وقت التركيز وقت الهدوء حيث ينبغي التلطيف وينبغي
التهدئة مع منح الثقة للمحاربين ينبغي مع هذه اللحظة تحقيق الموازنة بين الانتظار
والتركيز فنرى أن البحر يبعث ذاك التهوين وأن قلة الأبيات تشارك في نفس الوظيفة
بينما الإعداد يتم بواسطة الطرف الثاني للإيقاع رويا وإيقاعا داخليا:
يجري الروي على
حرف الجيم وهو من الحروف الجهرية والمقلقلة يحدث هزة ورجة تتفق مع المقام، حيث يتم
إعداد النفس لخوض القتال. أما الإيقاع الداخلي فيتميز بتجاور الحروف المهموسة أو
الرقيقة على شكل حروف الهاء والفاء والياء والسين واللام في حين أن الحروف المفخمة
قليلة ومتناثرة وما يميزها أنها صفيرية كحرف الصاد.
ذلك كله يشير إلى
تهيئة الجيش نفسه بالهدوء وبالاتزان مع عدم الخلو من الحالة المتوترة التي تدفع
إلى صفير النفس أحيانا باعتبار أن الجنود يشرا قد يصيبهم الضعف لكن الأمر بيد
القائد يستطيع بحنكته وبحكمته أن يدفعهم إلى طلب النصر وإبادة ما عندهم من الرهبة
ومن لحظات الضعف التي تعبر عليهم فأي صورة تقدم لنا في النص عن هذا القائد؟
البيتان الأولان
يحتلان موضع الاستهلال غير أن الأسلوب الذي يقومان عليه يختلف وطبيعة الاستهلالات
في القصائد العامة التقليدية المحافظة على المقدمات الكلاسيكية أو في قصائد
المتنبي ذات الاستهلال الحكمي بل هما ذاتا أسلوب تقريري فيهما إيمان ذاتي
بالمستقبل وفيهما اقتناع المتيقن بما تؤول إليه الأحداث بعد إنشاد القصيدة ثم بعد
الموقعة فما هي مبررات تقديم هذا النوع من الاستهلال التقريري؟
حينما كان
المتنبي يقدم لقصائده بمقدمات حكمية، كان يصدر عن موضوع يتلو الأحداث ويكون بعد قد
استتب عنده المعنى واتخذ العبرة وكيّف هذه العبرة حسب الحكم التي يقدم بها. أما في
مناسبتنا هذه فإن المتنبي ينظم قصيدته وهو يسبق الأحداث يسبق حدوث الحرب فيكون
أسلوب الاستشراف مناسبا بدل الحديث بالحكمة التي تستثمر الماضي وترشحه قانونا يعبر
عما هو زماني مطلق.
إذن المتنبي يريد
أن يبدي رأيه في الحدث الآتي ويريد أن تكون له كلمة في الشأن ويريد أن يؤثر في
النفوس بالإيجاب فيولد فيها الاشتياق نحو النهاية ونحو الإحراز على النتيجة
الموعودة ألا وهي تحقيق النصر. قد نذهب في هذا السياق أن نحكم على المتنبي أنه
يبني قوله على التكهن الاعتباطي وهو يحاول أن يقنع الجيش والأمير بما لا يقنع :
إنه يعمل على إثبات النصر وأن هذا النصر لن يتوقف عند النتيجة بل ستكون له آثار
ونتائج تتعدى حدود ذلك اليوم لتنظم حياة العرب بداية من انتهاء الحرب. ذلك ما
نلتمسه من استعارة الأريج للنتيجة الرائحة العطرة التي تبعث روح النشوة وروح
الإمتاع. هذه النتيجة سيظفر العرب بقيمتها بينما الدمار والهلاك سيصيب الروم
الأعداء وهو نفسه ما نلتمسه من استعارة النار لخسارتهم الحربية التي ستأتي على كل
ما بنوه وما أعدوه.
المتنبي يقابل
منذ المقدمة بين منتصر يقصد العرب يجنون ثمار انتصارهم بعد الحرب من جهة ومنهزم
ذليل يقصد الروم يندحرون ويفقدون أي طعم جميل من حربهم في جهة أخرى. ذلك وقتما
عندما تبيت المحصنات آمنات ويسلم الحجيج في مسالكهم، فنستنتج أن الممدوح يختلف عن
الروم أنه يخوض الحرب وهو يحمل هما أعظم من همه الشخصي يتجاوز به حدود تحقيق النصر
لأجل النصر بل يتقدم وهو يدافع عن قضية يكلفها لنفسه وهو ما كان لو تجنبها أن
يتكلفها بصفة مباشرة ، إنها تدخل في واجبات الخليفة المسؤول على أعراض المسلمين
وعلى شرفهم يساءل عما يمسهم وعما يصيبهم بينما أميرنا هو يسير إمارة صغيرة فيكفيه
أن يدافع عنها وأن يدفع عنها أطماع المغيرين.
يصبح سيف الدولة
حسب ما قدمنا محتل موقع نفسه وغيره لأن نفسه مسكونة بالقضايا القومية المحلية التي
انشغل عنها الحكام في ذاك العصر والتفتوا إلى متعهم يتشبعون باللهو وبالمجون وكسب
المال بالاعتداء على العامة يفتكون محاصلهم ومكاسبهم وتعبهم وأموالهم قد طلقوا كل
ما يقرب إلى المجد ثقافة وقتالا ويتصنعون النعمة وهم ينسون أن التاريخ يلقي بهم في
المزابل ولا يبقي إلا من كان له أثر كسيف الدولة حسب ما يبدو من اتجاه الشاعر منذ
المطلع حيث يظهره أنه المدافع عن القضايا العربية الحقيقية يتشبث بقيمنا العربية
الأصيلة يدفع بنفسه إلى الهلاك من أجل نقاء الشرف العربي ومن أجل امن العرب على
أرواحهم من اعتداءات قطاع الطرق عربا وروما.
لهذه الاعتبارات
نرى أن المتنبي يتضاعف إعجابه بالرجل ويمنحه ثقته ويتيقن أنه وحده من يحمل الآمال
العربية من بين حكام عصره وحده من يجعل مجده مرتبطا بما يصنعه للآخرين من أبناء
جلدته لا يفرق من منهم في إمارته ومن منهم في حكم غيره لكن من من حكام عصره كانوا
عربا حتى تحدث عنده ذات الغيرة وذات الحماسة أو الحمية على قضاياهم؟
ترد الوحدة
الثانية للاستدلال على الثقة التي حملها المتنبي في الوحدة الأولى حول سيف الدولة،
ترد وهي تحمل خطابا مباشرا فيه مراوحة بين الخبر والإنشاء حيث تنعكس العاطفة التي
تربط بين الشخصين فيوجه الخطاب له كأنه يخاطب صديقه لا قائده أو أميره ( عرفتك )
لكنه يخاطبه بكل حب وتقدير باستعمال النداء والاستعارة ( أيها الأسد المهيجُ )
التراوح بين
الإنشاء والخبر في نصنا يساهم في إحداث التكامل في ما يؤديانه من معان كالنداء
يكمل ما ورد في الجملة الإخبارية أن المتنبي يعرف سيف الدولة وأنه يعرفه أسدا
مهيجا وكالاستفهام يرد بعد الجملة الإخبارية يتعلق باستعارة البحر للممدوح فيقدمه
في وجهه الثاني الهائج المقابل لوجهه الأول الوارد في المعلومة الإخبارية حيث يكون
مستقرا.
ووجه البحر يعرف من بعيد إذا
يسجو فكيف إذا يموجُ
لكن الواضح أن
النص يغلب عليه الأسلوب الخبري وإن لاحظنا أن هناك مقامات إنشائية تقطع تسلسل
الجمل الخبرية وذلك بحكم أن سيف الدولة متعدد الصفات الظاهرة فلا بد أن تتعدد حوله
الصفات حتى تقترب من صورته الكاملة وهو ما نحتاج أن نلتفت لتحليله إلى النظر في
تراكيبه النحوية:
إن ميل المتنبي في القصيدة :"لهذا اليوم
بعد غد أريج" نحو الإيجاز تحكم في صوغه للجمل فنراه اعتمد في مدح سيف الدولة
جملة أولى في البيت الثالث قامت على الإجمال قارن فيها بين الأعداء باعتبارهم
فرائس له وبينه باعتباره الأسد المهيج مفترسها. ومن هذه الجملة الأولى ينتقل إلى
الجملة الثانية التي تحمل التفاصيل ولكنها وحدها تستغرق الأبيات الثلاثة التالية
الخاصة بالمدح. الجملة المذكورة فعلية يتصدرها فعل " عرفتك " في
زمن الماضي للدلالة على ثبوت
وقوعه، هذا الفعل ذو شحنة ذهنية يعكس أنه إنما تحقق على الدرس وعلى التحليل
والتمكن لم يبن على الانطباع والاندفاع فتفرعت المعرفة تلك إلى إلى جملة من الصفات
أثبتها المتنبي في تتالي مركبات إسنادية في محلات الأحوال الخاصة بالدلالة على
الصفات الظرفية غير الدائمة فكيف يستقيم ذلك مع سياقنا المدحي الذي يسعى فيه
الشاعر أن يثبت على ممدوحه الصفات المنسوبة إليه؟
للإجابة عن ذلك
نستند إلى المناسبة التي يستند إليها الشاعر أنها مناسبة التعرف وهذه المناسبة لا
بد أن تكون ظرفية ومع ظرفيتها فإنها قد حققت عن سيف الدولة كل تلك الصفات من نظرة
واحد و من وقفة واحدة ومن لقاء واحد فما بالنا لو يدوم اللقاء ويتم التعارف بعد
طول إقامة وبعد صداقة فلعل الصفات المذكورة مع اللقاءات في بداياتها ستتدعم بصفات
غيرها تظهر بالمعاشرة ولكنها أعمق وأقوى لها آثار على حكم المتنبي مسبقا أن سيف
الدولة سينتصر وسيقطع بفوزه مع ضعف العرب ومع إذلال الروم له.
هكذا نفهم أن
الرجل الواعي متى اكتسب قوة الفراسة وتمكن من التمييز وخبر الآخرين تتكون لديه
كالمتنبي فطنة تحوله إلى عارف بالأحوال متوقع للأحداث قبل حصولها مالكا للتنبؤ
بالمستقبل ليس دجالا وليس منجما وإنما هو يتحصل على ذلك انطلاقا من تميزه العقلي.
تميزه هذا جعله يحكم بما قدمنا أن سيف الدولة سينتصر وأنه سينشر الأمن في البلاد
العربية كلها كما عرفه منذ البداية في الحرب وهو لا يبالي بغير سيفه دلالة على
فروسيته وعلى طلبه للحرب مثلما أثبتت ذلك الكنايتان الواردتان في المركبين
الإسناديين التاليين مباشرة لفعل عرفتك. ثم إن المتنبي يعرض علينا الظرف المكاني
الخاص بالتعرف فإذا به يتصل بمكان متحرك فيه سفر وتحول وركض يعبر عن إذابة للمكان
المقطوع وإهلاك له كما عبر عن ذلك الشاعر بواسطة الكناية" إذا ملئت من
الركض الفروج"
من جديد تعترضنا
صورة الركض وصورة الرحيل وصورة الإسراع في سياق حربي لنستفيد هنا أن المغير قد اعد
لحربه وقد اكتسب الثقة وجمع من رباط الخيل ما أرهب عدوه حتى أصبح يقطع المسافات
فلا تعترضه حواجز ولا تعترضه عراقيل ولا يصده عدو. ارض العدو أصبحت مستباحة يهجم
سيف الدولة وهو لا يهاب يهجم وهو يحسن تحديد الطريق الصائبة يهجم يتشوق للنزال فأي
صفات يمكن أن نركبها هنا أنحكم على الممدوح بالشجاعة والمبادرة وفضل القيادة
والمناعة أو نصف العدو بالجبن والضعف والرهبة والتأخر وعدم رد الفعل وعدم الثقة؟
فييتولد من ذلك الاختلاف على المستويين النفسي والمادي أظهرنا فيهما التفوق
للممدوح ونظهر بعدها في قسم الهجاء والسخرية المرتبة الأدنى للمهجو:
إن أساس الهجاء
في القصيدة الأسلوب الساخر يظهر في مواقف عديدة:
صورة الصراع بين
القائدين حيث يظهر سيف الدولة وحيدا يهاجم ملك الروم الذي يحتمي برعيته الموصوفين
بالعلوج فإذا بالدائرة تدور في غير مدارها أي بدل أن يضع القائد الخطة الكفيلة
بحمايتهم جميعا تراه لايجد حلا سوى الاحتماء بمن هم دونه في جيشه فأي طاعة ستكون
من عندهم وأي ثقة في شخصه؟
الصورة الثانية هي
صورة التهديد الذي لا يجدي كأنه تهديد الجبناء غير القادرين على الفعل وهو ما
تكشفه الاستعارة أن الروم أبراج محصورة بالنجوم اللامعة.
الصورة الثالثة
في المقابلة بين الدمستق والمسلمين أنه لا يعرف لغة السيوف والأسلحة يقدم هنا على
صورة الجهل بل الحمق والغباء
الصورة الرابعة
مكملة لصورته السابقة فمن حمقه إذا أقدم خسر وإذا أحجم خسر كذلك فهو لا يستوعب
الدروس من حيث ما أتته كما تبين الموازنة بالمقابلة سواء كانت في أرضه أوفي أرض
قريبة إلى أعدائه : لا يحسن التصرف داخل الديار كما في خارج الديار.
بينما في الجهة
المقابلة في قسم الهجاء تبرز صورة الممدوح يستعمل المتنبي في شأنها الأسلوب
المقابل للسخرية : أسلوب التضخيم البارز أولا في المبالغة: " حملته
صدوق" " غارته لجوج" وثانيا في الصورة المعتمدة على الكناية
حيث تظهر الرعية وإياه كرعية ملك الروم تحميه لكنها لا تتصرف بالسيف لأداء الواجب
فحسب بل إنها تستخدم الدعاء الذي يدل على صدقها في حبه
الصور الواردة في
الهجاء قد وضعت للدمستق موضعا مخالفا لموضع سيف الدولة بين جنده ورعيته وفي نفس
كليهما مما حدا بالمتنبي أن يستثمر الصورتين المتقابلتين فيسخر من الضعيف ويضخم من
صورة القوي
إذا مدح المتنبي
سيف الدولة وغاص في بعض صفاته وفي المقابل تعرض لأعدائه بالسخرية فنزعهم الصفات
الممدوحة فإنه أصبغ على ذلك من ذاته فلم يبد عليه الاتجاه إلى الحياد فحكم أحكاما
عاطفية قد لا نثق في تاريخيتها وفي واقعيتها على اعتبار أن الميل فيها اتجه إلى
التضخيم سلبا وإيجابا. لكن الشعر لا نتناوله من جهة التوفيق في ذلك أو عدم التوفيق
بل نحكم عليه من جهة القيم التي يسعى إلى ترسيخها وإلى نمذجتها وفي ذلك قد نرى أن
المتنبي قد توفق إلى حد بعيد.
ما نرى المتنبي
قد وفق إليه عند تحليلنا للنص أنه حصر في شخصية ممدوحه سيف الدولة المعاني والقيم
التي ينلغي أن يتميز بها الشخص النموذجي للسهر على شؤون العرب عليه أن لا يفقد
الإحساس بمواطن النقص في حياتهم وبما يحتاجونه أن يكون جديرا بالقيادة لا يهاب
الحرب يتصف بالإقدام والشجاعة لا يتهاون أمام الحق في أي أرض يعد له ما استطاع له
من رباط الخيل والقوة ليرهب بها أعداءه من سولت لهم أنفسهم لما رأوا عليه الحكام
على الأراضي العربية من انشغال عن همومهم الحقيقية فاعتدوا على النساء وعلى الرجال
الآمنين العزل حتى لا يعودوا إلى صنيعهم وتعود المناعة إلى العرب مثلما كانوا وكما
ستدوم حالهم بعد النصر.
لقد ملك المتنبي
الثقة الكاملة في أحكامه ومعرفته أنه يميز بين القوي الفاعل كسيف الدولة والوضيع
المنهزم كقائد الروم وانطلق بهذا الحكم الذاتي يوزع آراءه ويدلي بشهادته متيقنا من
وقوع قوله في المستقبل فكيف سيتصرف إذا دارت الدائرة على سيف الدولة وهزمه أعداؤه؟