الجمعة، 25 أكتوبر 2013


تحليل قصيدة : لهذا اليوم بعد غد أريج
لهذا اليَومِ بَعْدَ غَدٍ أرِيجُ
وَنَارٌ في العَدُوّ لهَا أجيجُ
تَبِيتُ بهَا الحَواضِنُ آمِنَاتٍ
وَتَسْلَمُ في مَسالِكِهَا الحَجيجُ
فلا زَالَت عُداتُكَ حَيْثُ كانَت
فَرائِسَ أيُّهَا الأسَدُ المَهيجُ
عَرَفْتُكَ والصّفُوفُ مُعَبّآتٌ
وَأنْتَ بغَيرِ سَيفِكَ لا تَعيجُ
وَوَجْهُ البَحْرِ يُعْرَفُ مِن بَعيدٍ
إذا يَسْجُو فكَيفَ إذا يَمُوجُ
بأرضٍ تَهْلِكُ الأشْواطُ فيهَا
إذا مُلِئَت من الرّكْضِ الفُرُوجُ
تحاوِلُ نَفْسَ مَلْكِ الرّومِ فيهَا
فَتَفْدِيهِ رَعِيّتُهُ العُلُوجُ
أبِالغَمَراتِ تُوعِدُنَا النَّصارَى
ونحنُ نُجُومُهَا وَهيَ البُرُوجُ
وَفِينَا السّيْفُ حَمْلَتُهُ صَدُوقٌ
إذا لاقَى وغارَتُهُ لَجُوجُ
نُعَوّذُهُ مِنَ الأعْيَانِ بَأساً
وَيَكْثُرُ بالدّعاءِ لَهُ الضّجيجُ
رَضِينَا والدُّمُسْتُقُ غَيرُ رَاضٍ
بمَا حكَمَ القَوَاضِبُ والوَشيجُ
فإنْ يُقْدِمْ فَقَد زُرنَا سَمَنْدُو
وَإن يُحْجِمْ فمَوعِدُنَا الخَليجُ

المقدمة:

على خلاف الشعراء المعروفين بالحماسة يبني المتنبي قصيدته " لهذا اليوم بعد غد أريج..." قبل اندلاع الحرب بمناسبة غزو سيف الدولة للروم سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، أي بعد سنتين من إقامته عند الحمدانيين تساعد على تكوين معرفة عميقة بالأمير هذه القصيدة مقتطفة من الديوان صفحة واحد وسبعين ومائتين شرح العكبري فيها يحمس سيف الدولة ويستشرف نتيجة الحرب واعدا إياه بالنصر ومتوعدا العدو مرهبا إياه.

فما هي آليات التحميس الإيقاعية خاصة ؟ وما هي المعاني الحماسية حين يمدح المتنبي سيف الدولة؟ وفي المقابل كيف يخدم الهجاء الحماسة في القصيدة؟

الجوهر

لهذا النص وحدات ثلاث نميزها اعتمادا على توزيع الضمائر ابتداء من البيتين الأولين حيث يستعمل الشاعر الغائب يعود على اليوم وعلى النار ليكون استشرافه للقادم من الزمان ثم يتم استعمال الخطاب المباشر : أنت للتعبير عن ثقة الشاعر في سيف الدولة حتى البيت السادس وتبقى الأبيثات الأخيرة يعبر فيها المتنبي بالضمائر التي تعود على الروم وعلى قائدهم ليسخر منهم.

آليات التحميس قد تكمن في الجانب الإيقاعي الذي ينقسم إلى خارجي وداخلي: أما الخارجي فيرتكز على البحر وهو الوافر القائم على تفعيلة واحدة يختلف مع الطويل والبسيط من البحور المركبة والثقيلة. يعتمد المتنبي هذا البحر بحكم أنه يسبق الحدث ومازالت لا تتوفر له المادة التي يستثمرها من أجل التعبير وهو ما يلتقي حتى مع حجم القصيدة وطولها باعتبارها قصيرة وقليلة العدد أبياتا خلافا لقصائد غيرها ذات عدد كبير من الأبيات. هل يعني هنا الحديث أن البحر لا يحقق وظيفته ولا يساهم في إثارة الحماسة؟

البحور الخفيفة تؤدي دورها لا شك في الحماسة خاصة إذا كانت تسبق لحظة المواجهة ووقت القتال، لا شك أن الظرف الذي يخص القصيدة هو وقت التركيز وقت الهدوء حيث ينبغي التلطيف وينبغي التهدئة مع منح الثقة للمحاربين ينبغي مع هذه اللحظة تحقيق الموازنة بين الانتظار والتركيز فنرى أن البحر يبعث ذاك التهوين وأن قلة الأبيات تشارك في نفس الوظيفة بينما الإعداد يتم بواسطة الطرف الثاني للإيقاع رويا وإيقاعا داخليا:
يجري الروي على حرف الجيم وهو من الحروف الجهرية والمقلقلة يحدث هزة ورجة تتفق مع المقام، حيث يتم إعداد النفس لخوض القتال. أما الإيقاع الداخلي فيتميز بتجاور الحروف المهموسة أو الرقيقة على شكل حروف الهاء والفاء والياء والسين واللام في حين أن الحروف المفخمة قليلة ومتناثرة وما يميزها أنها صفيرية كحرف الصاد.
ذلك كله يشير إلى تهيئة الجيش نفسه بالهدوء وبالاتزان مع عدم الخلو من الحالة المتوترة التي تدفع إلى صفير النفس أحيانا باعتبار أن الجنود يشرا قد يصيبهم الضعف لكن الأمر بيد القائد يستطيع بحنكته وبحكمته أن يدفعهم إلى طلب النصر وإبادة ما عندهم من الرهبة ومن لحظات الضعف التي تعبر عليهم فأي صورة تقدم لنا في النص عن هذا القائد؟
البيتان الأولان يحتلان موضع الاستهلال غير أن الأسلوب الذي يقومان عليه يختلف وطبيعة الاستهلالات في القصائد العامة التقليدية المحافظة على المقدمات الكلاسيكية أو في قصائد المتنبي ذات الاستهلال الحكمي بل هما ذاتا أسلوب تقريري فيهما إيمان ذاتي بالمستقبل وفيهما اقتناع المتيقن بما تؤول إليه الأحداث بعد إنشاد القصيدة ثم بعد الموقعة فما هي مبررات تقديم هذا النوع من الاستهلال التقريري؟
حينما كان المتنبي يقدم لقصائده بمقدمات حكمية، كان يصدر عن موضوع يتلو الأحداث ويكون بعد قد استتب عنده المعنى واتخذ العبرة وكيّف هذه العبرة حسب الحكم التي يقدم بها. أما في مناسبتنا هذه فإن المتنبي ينظم قصيدته وهو يسبق الأحداث يسبق حدوث الحرب فيكون أسلوب الاستشراف مناسبا بدل الحديث بالحكمة التي تستثمر الماضي وترشحه قانونا يعبر عما هو زماني مطلق.
إذن المتنبي يريد أن يبدي رأيه في الحدث الآتي ويريد أن تكون له كلمة في الشأن ويريد أن يؤثر في النفوس بالإيجاب فيولد فيها الاشتياق نحو النهاية ونحو الإحراز على النتيجة الموعودة ألا وهي تحقيق النصر. قد نذهب في هذا السياق أن نحكم على المتنبي أنه يبني قوله على التكهن الاعتباطي وهو يحاول أن يقنع الجيش والأمير بما لا يقنع : إنه يعمل على إثبات النصر وأن هذا النصر لن يتوقف عند النتيجة بل ستكون له آثار ونتائج تتعدى حدود ذلك اليوم لتنظم حياة العرب بداية من انتهاء الحرب. ذلك ما نلتمسه من استعارة الأريج للنتيجة الرائحة العطرة التي تبعث روح النشوة وروح الإمتاع. هذه النتيجة سيظفر العرب بقيمتها بينما الدمار والهلاك سيصيب الروم الأعداء وهو نفسه ما نلتمسه من استعارة النار لخسارتهم الحربية التي ستأتي على كل ما بنوه وما أعدوه.
المتنبي يقابل منذ المقدمة بين منتصر يقصد العرب يجنون ثمار انتصارهم بعد الحرب من جهة ومنهزم ذليل يقصد الروم يندحرون ويفقدون أي طعم جميل من حربهم في جهة أخرى. ذلك وقتما عندما تبيت المحصنات آمنات ويسلم الحجيج في مسالكهم، فنستنتج أن الممدوح يختلف عن الروم أنه يخوض الحرب وهو يحمل هما أعظم من همه الشخصي يتجاوز به حدود تحقيق النصر لأجل النصر بل يتقدم وهو يدافع عن قضية يكلفها لنفسه وهو ما كان لو تجنبها أن يتكلفها بصفة مباشرة ، إنها تدخل في واجبات الخليفة المسؤول على أعراض المسلمين وعلى شرفهم يساءل عما يمسهم وعما يصيبهم بينما أميرنا هو يسير إمارة صغيرة فيكفيه أن يدافع عنها وأن يدفع عنها أطماع المغيرين.
يصبح سيف الدولة حسب ما قدمنا محتل موقع نفسه وغيره لأن نفسه مسكونة بالقضايا القومية المحلية التي انشغل عنها الحكام في ذاك العصر والتفتوا إلى متعهم يتشبعون باللهو وبالمجون وكسب المال بالاعتداء على العامة يفتكون محاصلهم ومكاسبهم وتعبهم وأموالهم قد طلقوا كل ما يقرب إلى المجد ثقافة وقتالا ويتصنعون النعمة وهم ينسون أن التاريخ يلقي بهم في المزابل ولا يبقي إلا من كان له أثر كسيف الدولة حسب ما يبدو من اتجاه الشاعر منذ المطلع حيث يظهره أنه المدافع عن القضايا العربية الحقيقية يتشبث بقيمنا العربية الأصيلة يدفع بنفسه إلى الهلاك من أجل نقاء الشرف العربي ومن أجل امن العرب على أرواحهم من اعتداءات قطاع الطرق عربا وروما.
لهذه الاعتبارات نرى أن المتنبي يتضاعف إعجابه بالرجل ويمنحه ثقته ويتيقن أنه وحده من يحمل الآمال العربية من بين حكام عصره وحده من يجعل مجده مرتبطا بما يصنعه للآخرين من أبناء جلدته لا يفرق من منهم في إمارته ومن منهم في حكم غيره لكن من من حكام عصره كانوا عربا حتى تحدث عنده ذات الغيرة وذات الحماسة أو الحمية على قضاياهم؟
ترد الوحدة الثانية للاستدلال على الثقة التي حملها المتنبي في الوحدة الأولى حول سيف الدولة، ترد وهي تحمل خطابا مباشرا فيه مراوحة بين الخبر والإنشاء حيث تنعكس العاطفة التي تربط بين الشخصين فيوجه الخطاب له كأنه يخاطب صديقه لا قائده أو أميره ( عرفتك ) لكنه يخاطبه بكل حب وتقدير باستعمال النداء والاستعارة ( أيها الأسد المهيجُ )
التراوح بين الإنشاء والخبر في نصنا يساهم في إحداث التكامل في ما يؤديانه من معان كالنداء يكمل ما ورد في الجملة الإخبارية أن المتنبي يعرف سيف الدولة وأنه يعرفه أسدا مهيجا وكالاستفهام يرد بعد الجملة الإخبارية يتعلق باستعارة البحر للممدوح فيقدمه في وجهه الثاني الهائج المقابل لوجهه الأول الوارد في المعلومة الإخبارية حيث يكون مستقرا.
ووجه البحر يعرف من بعيد    إذا يسجو فكيف إذا يموجُ
لكن الواضح أن النص يغلب عليه الأسلوب الخبري وإن لاحظنا أن هناك مقامات إنشائية تقطع تسلسل الجمل الخبرية وذلك بحكم أن سيف الدولة متعدد الصفات الظاهرة فلا بد أن تتعدد حوله الصفات حتى تقترب من صورته الكاملة وهو ما نحتاج أن نلتفت لتحليله إلى النظر في تراكيبه النحوية:
 إن ميل المتنبي في القصيدة :"لهذا اليوم بعد غد أريج" نحو الإيجاز تحكم في صوغه للجمل فنراه اعتمد في مدح سيف الدولة جملة أولى في البيت الثالث قامت على الإجمال قارن فيها بين الأعداء باعتبارهم فرائس له وبينه باعتباره الأسد المهيج مفترسها. ومن هذه الجملة الأولى ينتقل إلى الجملة الثانية التي تحمل التفاصيل ولكنها وحدها تستغرق الأبيات الثلاثة التالية الخاصة بالمدح. الجملة المذكورة فعلية يتصدرها فعل " عرفتك " في زمن الماضي  للدلالة على ثبوت وقوعه، هذا الفعل ذو شحنة ذهنية يعكس أنه إنما تحقق على الدرس وعلى التحليل والتمكن لم يبن على الانطباع والاندفاع فتفرعت المعرفة تلك إلى إلى جملة من الصفات أثبتها المتنبي في تتالي مركبات إسنادية في محلات الأحوال الخاصة بالدلالة على الصفات الظرفية غير الدائمة فكيف يستقيم ذلك مع سياقنا المدحي الذي يسعى فيه الشاعر أن يثبت على ممدوحه الصفات المنسوبة إليه؟
للإجابة عن ذلك نستند إلى المناسبة التي يستند إليها الشاعر أنها مناسبة التعرف وهذه المناسبة لا بد أن تكون ظرفية ومع ظرفيتها فإنها قد حققت عن سيف الدولة كل تلك الصفات من نظرة واحد و من وقفة واحدة ومن لقاء واحد فما بالنا لو يدوم اللقاء ويتم التعارف بعد طول إقامة وبعد صداقة فلعل الصفات المذكورة مع اللقاءات في بداياتها ستتدعم بصفات غيرها تظهر بالمعاشرة ولكنها أعمق وأقوى لها آثار على حكم المتنبي مسبقا أن سيف الدولة سينتصر وسيقطع بفوزه مع ضعف العرب ومع إذلال الروم له.
هكذا نفهم أن الرجل الواعي متى اكتسب قوة الفراسة وتمكن من التمييز وخبر الآخرين تتكون لديه كالمتنبي فطنة تحوله إلى عارف بالأحوال متوقع للأحداث قبل حصولها مالكا للتنبؤ بالمستقبل ليس دجالا وليس منجما وإنما هو يتحصل على ذلك انطلاقا من تميزه العقلي. تميزه هذا جعله يحكم بما قدمنا أن سيف الدولة سينتصر وأنه سينشر الأمن في البلاد العربية كلها كما عرفه منذ البداية في الحرب وهو لا يبالي بغير سيفه دلالة على فروسيته وعلى طلبه للحرب مثلما أثبتت ذلك الكنايتان الواردتان في المركبين الإسناديين التاليين مباشرة لفعل عرفتك. ثم إن المتنبي يعرض علينا الظرف المكاني الخاص بالتعرف فإذا به يتصل بمكان متحرك فيه سفر وتحول وركض يعبر عن إذابة للمكان المقطوع وإهلاك له كما عبر عن ذلك الشاعر بواسطة الكناية" إذا ملئت من الركض الفروج"
من جديد تعترضنا صورة الركض وصورة الرحيل وصورة الإسراع في سياق حربي لنستفيد هنا أن المغير قد اعد لحربه وقد اكتسب الثقة وجمع من رباط الخيل ما أرهب عدوه حتى أصبح يقطع المسافات فلا تعترضه حواجز ولا تعترضه عراقيل ولا يصده عدو. ارض العدو أصبحت مستباحة يهجم سيف الدولة وهو لا يهاب يهجم وهو يحسن تحديد الطريق الصائبة يهجم يتشوق للنزال فأي صفات يمكن أن نركبها هنا أنحكم على الممدوح بالشجاعة والمبادرة وفضل القيادة والمناعة أو نصف العدو بالجبن والضعف والرهبة والتأخر وعدم رد الفعل وعدم الثقة؟ فييتولد من ذلك الاختلاف على المستويين النفسي والمادي أظهرنا فيهما التفوق للممدوح ونظهر بعدها في قسم الهجاء والسخرية المرتبة الأدنى للمهجو:
إن أساس الهجاء في القصيدة الأسلوب الساخر يظهر في مواقف عديدة:
صورة الصراع بين القائدين حيث يظهر سيف الدولة وحيدا يهاجم ملك الروم الذي يحتمي برعيته الموصوفين بالعلوج فإذا بالدائرة تدور في غير مدارها أي بدل أن يضع القائد الخطة الكفيلة بحمايتهم جميعا تراه لايجد حلا سوى الاحتماء بمن هم دونه في جيشه فأي طاعة ستكون من عندهم وأي ثقة في شخصه؟
الصورة الثانية هي صورة التهديد الذي لا يجدي كأنه تهديد الجبناء غير القادرين على الفعل وهو ما تكشفه الاستعارة أن الروم أبراج محصورة بالنجوم اللامعة.
الصورة الثالثة في المقابلة بين الدمستق والمسلمين أنه لا يعرف لغة السيوف والأسلحة يقدم هنا على صورة الجهل بل الحمق والغباء
الصورة الرابعة مكملة لصورته السابقة فمن حمقه إذا أقدم خسر وإذا أحجم خسر كذلك فهو لا يستوعب الدروس من حيث ما أتته كما تبين الموازنة بالمقابلة سواء كانت في أرضه أوفي أرض قريبة إلى أعدائه : لا يحسن التصرف داخل الديار كما في خارج الديار.
بينما في الجهة المقابلة في قسم الهجاء تبرز صورة الممدوح يستعمل المتنبي في شأنها الأسلوب المقابل للسخرية : أسلوب التضخيم البارز أولا في المبالغة: " حملته صدوق" " غارته لجوج" وثانيا في الصورة المعتمدة على الكناية حيث تظهر الرعية وإياه كرعية ملك الروم تحميه لكنها لا تتصرف بالسيف لأداء الواجب فحسب بل إنها تستخدم الدعاء الذي يدل على صدقها في حبه
الصور الواردة في الهجاء قد وضعت للدمستق موضعا مخالفا لموضع سيف الدولة بين جنده ورعيته وفي نفس كليهما مما حدا بالمتنبي أن يستثمر الصورتين المتقابلتين فيسخر من الضعيف ويضخم من صورة القوي
إذا مدح المتنبي سيف الدولة وغاص في بعض صفاته وفي المقابل تعرض لأعدائه بالسخرية فنزعهم الصفات الممدوحة فإنه أصبغ على ذلك من ذاته فلم يبد عليه الاتجاه إلى الحياد فحكم أحكاما عاطفية قد لا نثق في تاريخيتها وفي واقعيتها على اعتبار أن الميل فيها اتجه إلى التضخيم سلبا وإيجابا. لكن الشعر لا نتناوله من جهة التوفيق في ذلك أو عدم التوفيق بل نحكم عليه من جهة القيم التي يسعى إلى ترسيخها وإلى نمذجتها وفي ذلك قد نرى أن المتنبي قد توفق إلى حد بعيد.
ما نرى المتنبي قد وفق إليه عند تحليلنا للنص أنه حصر في شخصية ممدوحه سيف الدولة المعاني والقيم التي ينلغي أن يتميز بها الشخص النموذجي للسهر على شؤون العرب عليه أن لا يفقد الإحساس بمواطن النقص في حياتهم وبما يحتاجونه أن يكون جديرا بالقيادة لا يهاب الحرب يتصف بالإقدام والشجاعة لا يتهاون أمام الحق في أي أرض يعد له ما استطاع له من رباط الخيل والقوة ليرهب بها أعداءه من سولت لهم أنفسهم لما رأوا عليه الحكام على الأراضي العربية من انشغال عن همومهم الحقيقية فاعتدوا على النساء وعلى الرجال الآمنين العزل حتى لا يعودوا إلى صنيعهم وتعود المناعة إلى العرب مثلما كانوا وكما ستدوم حالهم بعد النصر.
لقد ملك المتنبي الثقة الكاملة في أحكامه ومعرفته أنه يميز بين القوي الفاعل كسيف الدولة والوضيع المنهزم كقائد الروم وانطلق بهذا الحكم الذاتي يوزع آراءه ويدلي بشهادته متيقنا من وقوع قوله في المستقبل فكيف سيتصرف إذا دارت الدائرة على سيف الدولة وهزمه أعداؤه؟ 

الاثنين، 21 أكتوبر 2013


تحليل قصيدة : الحدث الحمراء، المتنبي/ نزار الديماسي

عَلى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتـي العَزائِـمُ".... " وَتَأتـي عَلـى قَـدرِ الـكِـرامِ المَـكـارِمُ
وَتَعظُـمُ فـي عَيـنِ الصَغـيـرِ صِغـارُهـا"...." وَتَصغُـرُ فـي عَيـنِ العَظيـمِ العَظـائِـمُ
يُكَلِّـفُ سَيـفُ الدَولَـةِ الجَـيـشَ هَـمَّـهُ"...." وَقَد عَجَزَت عَنـهُ الجُيـوشُ الخَضـارِمُ
وَيَطلِـبُ عِنـدَ النـاسِ مـا عِنـدَ نَفسِـهِ"...." وَذَلِـــكَ مـــا لا تَـدَّعـيــهِ الـضَـراغِــمُ
يُـفَـدّي أَتَــمُّ الطَـيـرِ عُـمـرًا سِـلاحَـهُ"...." نُـسـورُ الـمَـلا أَحداثُـهـا وَالقَشـاعِـمُ
وَمــا ضَـرَّهـا خَـلــقٌ بِـغَـيـرِ مَـخـالِـبٍ"...." وَقَـــد خُـلِـقَـت أَسـيـافُـهُ وَالـقَـوائِـمُ
هَـلِ الـحَـدَثُ الحَـمـراءُ تَـعـرِفُ لَونَـهـا"...." وَتَـعـلَــمُ أَيُّ السـاقِـيَـيـنِ الـغَـمـائِـمُ
سَقَتـهـا الغَـمـامُ الـغُـرُّ قَـبـلَ نُـزولِــهِ"...." فَلَمّـا دَنــا مِنـهـا سَقَتـهـا الجَمـاجِـمُ
بَنـاهـا فَأَعـلـى وَالقَـنـا تَـقـرَعُ الـقَـنـا"...." وَمَـــوجُ المَـنـايـا حَـولَـهـا مُـتَـلاطِــمُ
وَكـانَ بِـهـا مِـثـلُ الجُـنـونِ فَأَصبَـحَـتْ"...." وَمِـن جُثَـثِ القَتـلـى عَلَيـهـا تَمـائِـمُ
طَـريــدَةُ دَهــــرٍ سـاقَـهــا فَـرَدَدتَـهــا"...." عَلى الديـنِ بِالخَطِّـيِّ وَالدَهـرُ راغِـمُ
تُفيـتُ اللَيـالـي كُــلَّ شَــيءٍ أَخَـذتَـهُ"...." وَهُــنَّ لِـمـا يَـأخُـذنَ مِـنــكَ غَـــوارِمُ
إِذا كــانَ مــا تَنـويـهِ فِـعــلاً مُـضـارِعًـا"...." مَضى قَبـلَ أَن تُلقـى عَلَيـهِ الجَـوازِمُ
وَكَيفَ تُرَجّي الـرومُ وَالـروسُ هَدمَهـا"...." وَذا الطَـعـنُ آســاسٌ لَـهـا وَدَعـائِــمُ
وَقَـــد حاكَـمـوهـا وَالمَـنـايـا حَـواكِــمٌ"...." فَمـا مـاتَ مَظلـومٌ وَلا عــاشَ ظـالِـمُ
أَتــــوكَ يَــجُــرّونَ الـحَـديــدَ كَـأَنَّـهُــمْ"...." سَـــرَوا بِـجِـيـادٍ مـــا لَـهُــنَّ قَـوائِــمُ
إِذا بَـرَقـوا لَــم تُـعـرَفِ البـيـضُ مِنـهُـمُ"...." ثِيـابُـهُـمُ مِــــن مِـثـلِـهـا وَالـعَـمـائِـمُ
خَميسٌ بِشَرقِ الأَرضِ وَالغَربِ زَحفُـهُ"...." وَفـــي أُذُنِ الـجَــوزاءِ مِـنــهُ زَمـــازِمُ
تَـجَـمَّـعَ فـيــهِ كُـــلُّ لِــســنٍ وَأُمَّــــةٍ"...." فَـمـا تُـفـهِـمُ الـحُــدّاثَ إِلا الـتَـراجِـمُ
فَـلِـلــهِ وَقــــتٌ ذَوَّبَ الــغِــشَّ نــــارُهُ"...." فَـلَــم يَـبــقَ إِلّا صـــارِمٌ أَو ضُــبــارِمُ
تَقَـطَّـعَ مــا لا يَقـطَـعُ الــدِرعَ وَالـقَـنـا"...." وَفَــرَّ مِــنَ الأَبـطـالِ مَــن لا يُـصـادِمُ
وَقَفتَ وَمـا فـي المَـوتِ شَـكٌّ لِواقِـفٍ"...." كَأَنَّـكَ فـي جَفـنِ الـرَدى وَهـوَ نـائِـمُ
تَـمُـرُّ بِــكَ الأَبـطـالُ كَلـمـى هَـزيـمَـةً"...." وَوَجـهُــكَ وَضّـــاحٌ وَثَـغــرُكَ بــاسِــمُ
تَجـاوَزتَ مِـقـدارَ الشَجـاعَـةِ وَالنُـهـى"...." إِلـى قَـولِ قَـومٍ أَنـتَ بِالغَـيـبِ عـالِـمُ
ضَمَمتَ جَناحَيهِمْ عَلى القَلـبِ ضَمَّـةً"...." تَـمـوتُ الخَـوافـي تَحتَـهـا وَالـقَــوادِمُ
بِضَـربٍ أَتـى الهامـاتِ وَالنَصـرُ غـائِـبُ"...." وَصــارَ إِلــى اللَـبّـاتِ وَالنَـصـرُ قــادِمُ
حَـقَـرتَ الرُدَينِـيّـاتِ حَـتّـى طَرَحـتَـهـا"...." وَحَتّـى كَـأَنَّ السَيـفَ لِلرُمـحِ شـاتِـمُ
وَمَــن طَـلَـبَ الفَـتـحَ الجَلـيـلَ فَـإِنَّـمـا"...." مَفاتيحُـهُ البـيـضُ الخِـفـافُ الـصَـوارِمُ
نَـثَـرتَـهُـمُ فَــــوقَ الأُحَــيــدِبِ نَــثْــرَةً"...." كَمـا نُثِـرَت فَـوقَ العَـروسِ الـدَراهِـمُ
تَدوسُ بِكَ الخَيلُ الوُكورَ عَلـى الـذُرى"...." وَقَـد كَثُـرَتْ حَـولَ الـوُكـورِ المَطـاعِـمُ
تَـظُــنُّ فِـــراخُ الـفُـتـخِ أَنَّـــكَ زُرتَــهــا"...." بِأُمّاتِـهـا وَهـــيَ الـعِـتـاقُ الـصَــلادِمُ
إِذا زَلِــقـــت مَـشَّـيـتَـهـا بِـبِـطـونِـهــا"...." كَمـا تَتَمَشّـى فـي الصَعيـدِ الأَراقِــمُ
أَفـي كُـلِّ يَـومٍ ذا الدُمُسـتُـقُ مُـقـدِمٌ"...." قَـفـاهُ عَـلـى الإِقــدامِ لِلـوَجـهِ لائِــمُ
أَيُنـكِـرُ ريــحَ الـلَـيـثَ حَـتّــى يَـذوقَــهُ"...." وَقَـد عَـرَفَـتْ ريــحَ اللُـيـوثِ البَهـائِـمُ
وَقَــد فَجَعَـتـهُ بِـاِبـنِـهِ وَاِبـــنِ صِـهــرِهِ"...." وَبِالصِهـرِ حَمْـلاتُ الأَمـيـرِ الغَـواشِـمُ
مَضى يَشكُرُ الأَصحابَ في فَوتِهِ الظُبا"...." بِـمـا شَغَلَتـهـا هامُـهُـمْ وَالمَـعـاصِـمُ
وَيَفـهَـمُ صَـــوتَ المَشـرَفِـيَّـةِ فـيـهِـمُ"...." عَلـى أَنَّ أَصـواتَ السُـيـوفِ أَعـاجِـمُ
يُـسَـرُّ بِـمـا أَعـطـاكَ لا عَــن جَـهـالَـةٍ"...." وَلَـكِـنَّ مَغنـومًـا نَـجــا مِـنــكَ غـانِــمُ
وَلَـســتَ مَـلـيـكًـا هــازِمًــا لِـنَـظـيـرِهِ"...." وَلَكِـنَّـكَ التَـوحـيـدُ لِـلـشِـركِ هـــازِمُ
تَــشَــرَّفُ عَــدنــانٌ بِــــهِ لا رَبـيـعَــةٌ"...." وَتَفـتَـخِـرُ الـدُنـيـا بِـــهِ لا الـعَـواصِــمُ
لَكَ الحَمدُ في الدُرِّ الَّـذي لِـيَ لَفظُـهُ"...." فَــإِنَّــكَ مُـعـطـيـهِ وَإِنِّـــــيَ نــاظِـــمُ
وَإِنّي لَتَعدو بي عَطاياكَ فـي الوَغـى"...." فَــلا أَنـــا مَـذمــومٌ وَلا أَنـــتَ نـــادِمُ
عَـلــى كُـــلِّ طَـيّــارٍ إِلَـيـهـا بِـرِجـلِــهِ"...." إِذا وَقَعَـت فـي مِسمَعَيـهِ الغَمـاغِـمُ
أَلا أَيُّهـا السَيـفُ الَّـذي لَيـسَ مُغـمَـدًا"...." وَلا فـيـهِ مُـرتــابٌ وَلا مِـنــهُ عـاصِــمُ
هَنيئًـا لِضَـربِ الهـامِ وَالمَـجـدِ وَالـعُـلا"...." وَراجـيـكَ وَالإِســـلامِ أَنَّـــكَ سـالِــمُ
وَلِم لا يَقي الرَحمَنُ حَدَّيـكَ مـا وَقـى"...." وَتَفليـقُـهُ هـــامَ الـعِــدا بِـــكَ دائِـــمُ

إن البطولات والانتصارات الحربية من المواضيع البارزة التي أغرت الفنانين بذكرها في إبداعاتهم[1] كأبي الطيب المتنبي الذي تأثر باسترداد سيف الدولة لقلعة الحدث الحمراء وبأحداثها فأنشأ القصيدة " على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ   وتأتي على قدر الكرام المكارمُ" يمدح سيف الدولة  ذاكرا خصاله الحربية والفردية في مقابل السخرية من الروم وترددهم رغم ضخامة جيشهم.
فكيف امتلك المتنبي أن نقل الأجواء الحربية على الواقع إلى قصيدته محاكيا؟ وما أوجه المراوحة بين مدح سيف الدولة وهجاء جيش الروم وقائده الدمستق؟
لقد بنى أبو الطيب المتنبي قصيدته وفق نظام الترابط بين المقدمة والغرض فنرى البيت الأول في المطلع يرتبط به القسم الأول  إلى حدود البيت الخامس عشر بعنوان مدح سيف الدولة. أما صدر البيت الثاني فيرتبط به القسم الثاني حتى البيت الواحد والعشرين بعنوان الهجاء وأما عجز نفس البيت فإنه يرتبط ببقية الأبيات وفيه عودة إلى المدح.
نلاحظ  من التقسيم الذي أوردنا أن المتنبي أخضع قصيدته إلى نظام بنيوي جديد يقطع مع النظام التقليدي ويعرف ترابطا بين عناصره ويرجع إلى شخصية المتنبي فردا للتأليف ويستغني عما سطرته المنظومة الأدبية الجمعية لضرورة التنقل بين  الطلل والنسيب والرحلة والغرض الأصلي وافق القول أو لم يوافقه. يبدو أن المتنبي اكتسب من تجربته ومن حظوته عند سيف الدولة ما يمكنه أن يقف أمام القوانين المرجع والقيود العامة  بمراجعه النابعة من ذاته فنراه يؤسس قصيدته وفق بنية لا نعهدها ولكنها تثبت  مدى قدرته وجدارته أن يكون الشاعر الرسمي لبلاط سيف الدولة الذي جمع أكبر عدد من شخصيات عصره[2] يستأنس إلى الأمير المساوي له عمرا والموافق له ذوقا أدبيا والمسكون مثله بالهموم العربية في عصره ينشغل بما آل إليه الحال في البلاد من ضعف وترد إلى أن أصبحت ثغورهم عرضة لهجمات الروم بعد أن كانوا يخشون غزو الخلفاء لهم ويتجنبونهم بدفع الجزية[3].
 رأى المتنبي أن سيف الدولة يتولى المهمة : مهمة الدفاع عن الثغور العربية بإرادة الأبطال وبعزيمتهم فأعجب به وكذلك في الجهة المقابلة يرى سيف الدولة المتنبي يحمل في شعره الآمال العربية  ويعبر عما تحمله في دواخلها فأخذه به نفسُ الإعجابِ .
إذن اللقاء بين الشخصين لقاء إعجاب وتواصل أو تكامل حيث أن سيف الدولة يمثل المجد المادي مع المجد السياسي منقوصين من المجد الثقافي وأما المتنبي فيمثل المجد الثقافي مع المجد المادي منقوصين من المجد السياسي. محصول ذلك أن كليهما بما عنده يكمل نقص الطرف الثاني وباتحادهما يكملان بعضيهما فنصبح أمام مجد سياسي ومجد ثقافي ومجد مادي فماذا يصنع ذلك؟
إن المنتوج في ظل ما نذكره  هو ما صنعه سيف الدولة  في قلعة الحدث من نصر وبناء وما تلا ذلك من المتنبي بتأليفه للقصيدة مخلدا الموقعة حسب ما عاينه وما عايشه فحصل لنا التآلف بين الواقعي والفني وهو ما نبينه في دراسة المطلع:
أول ما ننتبه إليه أن الشاعر افتتح قصيدته بمطلع حكمي يمثل خلاصة التجربة التي فاقت العادة وينبغي أن تحتفل بها قصيدة تفوق العادة. يستخدم المتنبي لذلك الأسلوب الحكمي  الموجز لفظا والمكتنز معنى والغني أسلوبا واليسير حفظا والمطلق زمنا والإنساني قصدا. ما يعرضها إلى الشهرة وإلى التداول لسانا.
الاتصال بين الحكم الأربع في المطلع والواقع الذي ينظرُ إليه المتنبي ويراه فيركز على ثنائية الرفعة والكرامة في مقابل الوضاعة والحقارة ويستخدم لهما أسلوبين بديعيين مناسبين هما الموازنة بالتكامل في البيت الأول  كما نبين في الجدول التالي

صدر
عجز
1
2
3
4
على قدر
أهل العزم
تأتي
العزائم
على قدر
الكرام
تأتي
المكارم

والموازنة بالتقابل كما يظهر من الجدول الثاني

صدر
عجز
1
2
3
تعظم
في عين الصغير
صغارها
تصغر
في عين العظيم
العظائمُ
أساس هذه التوازنات شخصيتان متعاديتان تواجهتا في الحرب فخرج المنتصر عزيزا بينما خرج المنهزمُ حقيرا وهو ما يجسمه المتنبي حتى على مستوى العدد كلمات منها أهل العزم  والعزائم والكرام والمكارم وصغارها وتصغر والعظائم كلها عشرة كلمات لسيف الدولة في مقابل تعظم عين الصغير العظائم ثلاث كلمات فقط تعود على الدمستق. نستفيد من ذلك أن توزيع الصفات هنا يحاكي الواقع حسب رؤية المتنبي فيتوسع في وصف سيف الدولة لعظمته ويضيق في وصف الدمستق القائد الرومي لحقارته. ( العظيم ≠ الحقير ) هذا التوزيع نفسه قد يظهر لنا أنه محاك للواقع الحربي طغى قليل العدد والعدة على ضخم العدد والعدة وحاصر الذي لا يهاب وهو قوي العزم من هو متردد ويهاب عدوه. وكذلك إذا عدنا إلى بنية القصيدة فإننا سنجد نفس الشكل حيث يحاصر المدح العظيم الموزع على قرابة أربعين بيتا  الهجاء المستقر على ست أبيات ما نظهره على الرسم التالي


                 مدح: 13 ب                     هجاء: 6 ب                 عودة إلى المدح: 24 ب
                                                         صغير
                                                                        
                                                    سيف الدولة  عظيم




لقد منح المتنبي المطلع مقدارا من العناية فحاكى به واقع الحرب وصورة الشخصيتين بطلتي القصيدة الحماسية فنقل ما هو واقعي إلى ما هو فني بنفس حكمي  تعددت أساليبه بتوزيع الكلام والصفات فأثرت على نغم الكلام وإيقاعاته لتبدو القصيدة ملحمة المتنبي يخلد بها الحادثة التي جرت في الواقعة موضوع  الوصف ومحور الحديث وهو الذي نتناوله في تحليلنا للأجزاء المتعلقة بمدح سيف الدولة ثم بهجاء الروم وقائدهم  ثم بعودة المتنبي سريعا لمدح سيف الدولة:




محور الحديث في أول النص سيف الدولة  المذكور منذ البيت الأول بعد الاستهلال اسما للاعتزاز به  وللاعتراف بمقامه أنه أصل الحديث في هذه القصيدة التي ينوي المتنبي أن يرقى بها فنا وإبداعا.
ما نلاحظه حول القصيدة أن المتنبي لا يلتزم نفس الأسلوب حتى إن غلبه  ولا يقف عند اتجاه واحد حتى إذا لفت انتباهنا إليه أنه يقصده: المتنبي يصنع
رسما كاملا ذا خط  من الحجم الكبير تتفرع عنه خطوط رفيعة ترفده كالنهر العظيم تتفرع عنه أودية يرفدها هو بالمياه التي تجري فيها
Organigramme hiérarchique
مادام سيف الدولة محور الاستقطاب فلابد أن تكون له فضائل عدة تعود على نفسه كما تعودُ على غيره : ما على نفسه نتبينه فهو المجد والرفعة والعظمة وأما الغير فنتبينه حينما يذكره ذكرا صريحا في البيت الثالث "الجيش" وفي البيت الرابع "الناس" وفي البيت الخامس "أتم الطير عمرا". يريد المتنبي أن يبرز الأمير الممدوح في مقام عال لا يشاركه أحد في التفوق فهو صاحب أثر على المحيطين به الأقرب فالأقرب  حسب ترتيب ذكرهم في الأبيات الجيش فالناس فالطير لم يخلف في أثره من في الأرض ومن في السماء لم يحرم من أثره هذا لا البشر ولا الطير ، هؤلاء جميعا منتفعون منه ما يؤكد عليه صفة التميز والفرادة التي يثبتها المتنبي باستعمال المقابلة في البيت الثالث بين الممدوح والجيوش الخضارم  ثم بينه وبين الضراغم فيعلو عليها جميعا وهي الجموع وهو الفرد. كل ما يذكره الشاعر عن سيف الدولة يتميز بالثبات والاستقرار ولهذا كان الاعتماد في الأفعال على زمن المضارع المعروف عنه أنه يصعد عن الزمن ويعبر عن المطلق. هكذا تكون صفاته المقصودة ثابتة عليه مادام حيا لكننا قد لا نعثر على صفات مباشرة فالمتنبي لا يستعمل الصفات المشبهة ولا يستعمل النعوت ولا الأسماء بل يقتصر على الأفعال. فهل يكون الوصف الذي يعتمده وصفا بالأفعال؟
فعلا إن المتنبي لا يجنح إلى الوصف المباشر بل دوره في هذا القسم الأول من المدح أن يلمح إلى الصفات المطلوبة ويتولى المتقبل ذاته التعبير عنها فتكون هذه الطريقة أوقع في المدح ذلك أن ما يصل إليه القارئ بالتحليل والإيحاء يكون أعمق في نفسه مما يصله بالذكر المباشر. فلنتعرف إذن عما أراد المتنبي أن يصف به سيف الدولة وصفا ثابتا.
ذكرنا أن المتتنبي منح سيف الدولة الفرادة لما قابل بينه وبين الأمثلة في الفعل كالجيوش الخضارم وكالضراغم فتنضاف إليه هنا صفة القدرة باعتبار أن الأفعال المنسوبة إلى الآخر دالة على العجز ( عجزت عنه، ما لا تدعيه ) في حين أن ما ينسب لسيف الدولة دال على الفعل والاقتدار. إذن سيف الدولة يفوق الغير فعلا وقدرة لكن فيم يكون فعله وتكون قدرته؟
ينسب المتنبي إلى سيف الدولة في البداية فعلين يشتركان في كونهما يعكسان مرتبته القيادية أنه يكلف ويطلب ولكنهما يختلفان في دلالتهما : فالتكليف يعني الملكية بينما الطلب فيعني الاحتياج وبذلك فإذا قبلنا أنه القائد وأنه مالك فكيف نقبل في سياق ذلك أنه محتاج؟
سيف الدولة ملك على جيشه وقائده لذلك فإنه يشترط لهذا الجيش أن يكون حسب مواصفات خاصة أن ينقل إليه همه وشغله وهذا ما لا يتسنى فعله حتى ولو اتحدت الجيوش حتى تكتسبه لكن الممدوح هنا باعتباره ذا قدرة فإنه لا يعترف بالصعوبات ولا يقبل أن يكون جنده كما هم في الجيوش خليطا بين شجعان وجبناء أو بين أقوياء وضعاف أو بين مقدمين ومترددين إنه يقصد الكمال وذاك هو همه  حتى إذا أمرهم في الأمور العظيمة وجد عندهم الاستجابة . تعكس علاقته بجيشه قدرته على التسيير وعلى القيادة غير أن الصلة هذه قد تتوسع وتصبح خاصة بالناس عندها الأمر سيختلف فعلام تنبني علاقته بالناس؟
التعبير كعادته في البداية مجملا ولكنه قد يفتح باب التأويل فنحن نتبين أن سيف الدولة في علاقة بالناس يطلب منهم لكنه لا يطلب منهم ما يحتاجه بل يطلب إليهم ما يحتاجونه أو ما ينقصهم وهو عنده "ما عند نفسه" فما الذي يكون عند نفسه وعند الضراغم لكنه يتميز عتها بأنه يرد أن يعممها عند الناس في حين تريد الأسود أن تقصره على نفسها؟
عُرفت الأسود بكونها مثال الشجاعة والقوة فسيف الدولة حسب ذلك يتميز مثلها بالقوة والشجاعة أي كأننا أمام التعبير القديم سيف الدولة كالأسد في الشجاعة غير أن المتنبي ليس معنى ذلك ما يقصده لا يريد لوجه الشبه أن يكون أظهر في الأسد المشبه به بل يريد للقوة أن تكون كما في التشبيه المقلوب لصالح سيف الدولة  ويضيف على ذلك معنى إنسانيا يميز سيف الدولة أنه يشتهي نفس الشجاعة والقوة عند الناس جميعهم . كلمة الناس تتخذ أبعادا عامة تختلف عن الأبعاد في ذكر معنى الجيش حيث أن الجيش يفترض أن يتحلى جميعهم بالولاء لقائدهم فطبيعي أن يتمنى ما عنده أن ينتقل إليهم على خلاف ذلك الناس منهم الموالي كما منهم المعادي ومع هذا فإن الأمير لا يميز بينهم ويطلب لجميعهم أن يكتسبوا ما عنده فهو ليس كالأسد الذي مع قوته لا يتجرأ على الوحوش المفترسة مثله بينما سيف الدولة بطل تعود بشهامته وفروسيته أن يترفع عن مواجهة الأضعفين ودخول الحروب التي كانت له فيها تحقيق إنجازات نتبينها من الطرف الثالث الذي يورده المتنبي منتفعا بآثار سيف الدولة عليه: نقصد الطير الأتم عمرا:

إن الصورة التالية لا تخلو من الخيال فيها اعتماد على الكناية حيث يخبرنا المتنبي عن الطيور العاجزة والمحتاجة إلى المساعدة بسبب كبر سنها أو بسبب صغرها أنها كونت علاقة بينها وبين جيش الحمدانيين تعودت متابعتهم حتى تتغذى من جثث القتلى. يصلنا بذلك المعنى الذي يوحي إليه الشاعر أن "عادة سيف الدولة الطعن في العدا" مما أكسبه شرف النصر واشتهر أمره فاكتسب المناعة لا يمكن هزمه والقصة مع الطير تشهد له بذلك[4]  
ما قدمه المتنبي حتى الأبيات التي نحللها صفات ثابتة مدح سيف الدولة بالقوة والقدرة والثقة والشجاعة وعادة النصر والمناعة فاستخدم لذلك الإيحاء بواسطة الوصف بالأفعال واستخدم المقابلة والكناية نحو إقناع المتقبل بتفوق سيف الدولة فيكون ما قاله بمثابة الأطروحة في حين أن ما يلي سيكون القسم الاستدلالي على فرادة سيف الدولة ورفعته :
يكلف
سيف الدولة
( + )
عجزت
الجيوش الخضارمُ
( - )
يطلب
سيف الدولة
( + )
ما لاتدعيه
الضراغم
( - )
ينجد
سيف الدولة
( + )
فراغ
فراغ
( - )
 الاستدلال على الصفات الثابتة التي ذكرناها يتم بواسطة الاستطراد بالعودة إلى أحداث هجوم سيف الدولة على قلعة  الأحداث واستردادها من أيدي الروم من غزوها وافتكوها فيطنب حولها المتنبي ويذكر أهم التفاصيل التي تعرضت إليها الأرض فيذكر حالها قبل الحرب وحالها وقت الحرب وحالها فيما بعد:
قبل الحرب
عند الحرب
بعد الحرب
طريدة دهر  بها مثل الجنون ، سقتها الغمام الغر
قرع القنا البناء كثرة القتلى والدماء
عليها تمائم ، احمرار القلعة ، عادت إلى الإسلام
لقد اعتمد المتنبي التفصيل في نقل الأحداث على المستويات الزمنية  نقلا شعريا يختصر الوقائع ولكنها تظهر القيمة التي بدا عليها الإنجاز وتصعد بالحدث نحو التجاوز للعادة بحيث بدا سيف الدولة على قدر عال من الوثوق في النصر حتى أنه لم ينتظر النتيجة والنصر وتعجل في بناء قلعة الحدث التي هدمها الروم بسبب ثقته لا تهوره وفعلا أظهرت الأحداث في نهايتها صدق أفعاله : ظهر ذلك من أسلوب العرض الذي اتبعه المتنبي " سقتها الغمام ...فلما دنا منها" "كان بها مثل الجنون فأصبحت..." "طريدة دهر ساقها فرددتها..." بهذا الأسلوب يصنع المتنبي المقابلات بين الأرض قبل قدوم سيف الدولة وبعد قدومه وفيها يظهر حقيقة أنه البطل صاحب الإنجاز بحكم أن النصر إذا لم يحدث صنعه في الواقع ولم يغير الواقع حسب إرادته فإن هذا النصر سيكون فاقدا للطعم لا أسس له. لكنه مع سيف الدولة قد ارتفع إلى درجة الإنجاز لأنه تضمن أحداثا ليست بالطبيعية منها ما ورد في البيت التاسع:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا      وموج المنايا حولها متلاطم
نلاحظ أن هذا البيت بدوره قد ألفه المتنبي وهو يحاكي فيه المضمون أولا شكلا بنقل فعل البناء عن طريق رسم الحروف الممدودة وفي نفس الوقت ينقل حركة الموج المتلاطم عن طريق رسم الحروف ذات الشكل الدائري أو نصف الدائري كالميم وكالهاء والواو والألف المقصورة... وثانيا تتم المحاكاة صوتيا باستعمال حرف القاف محاكاة لصوت الرماح وهي تقرع بعضها البعض
تحليلنا لمدح المتنبي سيف الدولة تم فيه الكشف عن صورة سيف الدولة الثابتة باعتباره القائد القوي الخالي من الميول الذاتية الباحث عن التأثير الإيجابي في الآخرين الواثق في نفسه وفي قدراته أنه فاعل لا يخشى العدو مهما بدت عليه القوة المادية وهو نفسه ما أثبته في المثال الحربي الواقعي لهجومه على جيش الروم رغم عدتهم وعتادهم ومع هذا بدا هو المقدم وهم الذين بدوا مترددين متراجعين. هذا ما سنعمل عل توضيحه في القسم الخاص بالهجاء:
 ينهي الشاعر مقطع المدح بالحديث عن الليالي في علاقتها بالممدوح مستخدما الاستعارة. فيها يؤكد الشاعر كما يظهر من اعتماد زمن المضارع أن سيف الدولة يتعود قهر الليالي التي إن افتكت منه ما يتبعه فإنه سيصبح دينا لابد أن يستعيده لما يتصفه على الثبات أنه لا يرضى الهزيمة ولا الخسارة وأنه ذو عزم لا يفتر منه حتى إذا بلغ هدفه. ما يقوله المتنبي هنا رفع للمعنويات فيه تمييز للممدوح حتى في واقع الهزيمة حيث ينبغي عليه أن يتحسر على ما فات بل عليه أن يستعيد عزمه ويجتهد في استرجاعه وكل القوى الطبيعية والمادية تسخر لأجله مثلما كان عليه الحال قبل مناسبة هذه القصيدة حين انهزم الأمير ضد الروم واستولوا على قلعة الحدث وهدموها فأنشأ قصيدته المعروفة التي هي في طرف النقيض لهذا النص يقول في أحد أبياتها محمسا الأمير:
الدهر معتذر والسيف منتظر...وأرضهم لك مصطااف ومرتبع
يبدو أن المتنبي استخلص من التجربتين: النصر الذي أعقب الهزيمة ما أورده في البيت الثاني عشر فأكد لسيف الدولة أنه ينبغي أن لا يحزن على ما يفقده فهو سيستعيده آجلا أو عاجلا لا اختلاف في شخصه عند الهزيمة أو عند النصر بينما غيره من لا ينبغي أن يعتز بفوز وقتي يكتسبه تحت عوامل الغدر والمخاتلة والاستتار بهما. نفهم هذا المعنى عندما نستند إلى المقاصد من ذكر استعارة الليالي التي تعتبر الزمن الخاص بالجبنا على عكسهم سيف الدولة كما يظهر في البيت الثالث عشر  حيث يضاف له إلى جانب خصاله المادية والنفسية الخصال العقلية فيظهر من التعبير التلازمي الظرفي الارتباط بين النوايا والأفعال وكأن سيف الدولة رجل يوحى إليه لكننا نعلم أنه لم يكن النبي ولا الرسول فمن أين تأتيه هذه الميزة أن يملك سرعة التوقع ويملك أن يقدر الأمور حق قدرها ويعلم مسبقا بالنتائج؟
لا يتوفر في شخص ما يقول المتنبي عن سيف الدولة إلا إذا كان صاحب حكمة ورشد وذا تجربة وذا فراسة وهو ما لا يتوفر إلا عند بعض الناس المعدودين من تتوفر فيهم شروط القيادة المحكمة. سيف الدولة منهم أو أبرزهم.
يتضح مما أبرزنا الصورة المقابلة بين سيف الدولة وأعدائه هو البطل وإن هزم لأنه لم يهزم عن جبن بل نتيجة غدر ونتيجة عوامل دنيئة عند عدوه الذي إن نازل منازلة حقيقية ستظهر صورته وسيكتشف جبنه كما نتبين من الكنايات المستعملة في الهجاء ومن الصورة المنتشرة أفقيا وعموديا:
اعتمد المتنبي في سرد الأفعال المتعلقة بالروم زمن الماضي ليثبت أنهم بعد هزيمتهم لم يعودوا قادرين على ترميم أحوالهم لنقص قدرتهم على ذلك وليثبت في الوقت نفسه الحجة أنهم الضعفاء وأن سيف الدولة القوي على اعتبار أن الأحداث مضت وأصبحت تمثل الشاهد الواقعي على ما أورده المتنبي: هؤلاء الروم يظهر أنهم جبناء مترددون متثاقلون نواياهم دفاعية لا هجومية. ذلك كله يتضح من استعمال الكنايات المتراكمة في نقل استعداد الروم للحرب فأظهرهم الشاعر أنهم يتقدمون وهم يجرون الحديد ويستعمل الفعل سروا الدال على البطء والتثاقل وتشبيه الجياد بالزواحف التي لا حركة سريعة لها. عندما نقف على وصف كهذا نتصور أن الجيش الموصوف صغير حقير لا حجم له ولا عدد في حين أن ما يلي يثبت خلاف ذلك باعتبار أن الروم قد جمعوا كما تثبت الكناية " لا تفهم الحداث إلا التراجم" وذكر الجنسيات المتعددة  المجتمعة في هذا الجيش وخاصة إيراد الصورة المنتشرة أفقيا على الأرض لحجم الجيش بين الشرق والغرب ولانبعاث الأصوات من الأسفل من الأرض إلى الأعلى إلى السماء
                              وفي أذن الجوزاء منه زمازم
                                 
                        خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
هذا الجيش على عظمته وعلى اختلاف أجناسه و كثرة عتاده بدا ضعيفا يسير بلا إرشاد ولا قيادة ولهذا ورد الحديث عنه في صيغة الجمع على خلاف جيش الحمدانيين الذين وقع الاستعاضة عنهم بالقائد الفرد بمقتضى أنه وإياهم صاحب الرأي والتخطيط بينما أعداؤه يقبلون للمولجهة الحربية على غير هدى من قائد  لن تتضح حقيقته وهو يصور ذلك التصوير الكاريكاتوري الساخر في قسم العودة إلى المدح فما هو الحاصل في هذا القسم وماذا بين المتنبي عن الطرفين خاصة بعد إظهار النتيجة بكشف الحقيقة وتذويب الغش أن العظيم عددا وعدة بدا حقيرا صغيرا صفات وعزما بينما الصغير عددا وعدة عظمت صفاته ونفسيته ومكرماته مثلما بين المطلع؟
لقد أحكم سيف الدولة إدارة الحرب حتى قلب الأوضاع فاستحال المقيم هاربا واستحال الوافد بانيا ومقيما هذه مقابلة عبر عنها أبو الطيب المتنبي بأسلوب فيه تغيير للتسلسل الطبيعي للأبيات نتبينه في البيتين  المتقاطعين  العشرين والواحد والعشرين:
فلله وقت ذوب الغـــــــش ناره... فلم يــــبق إلا صارم وضبارم
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا... وفر من الأبطال من لا يصادم
لو نعيد ترتيب هذه الأبيات سنجد أن صدر البيت الثاني يمكن أن يلي عجز البيت الأول باعتباره تفسيرا له، ثم بعد ذلك تكون النتيجة وما يقابلها بين العجزين لنحصل على الذي نقتنرحه: فلله وقت ذوب الغش ناره ... تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا
                                  فلم يبق إلا صارم وضبارم ... وفر من الأبطال من لا يصادم
نفس القلب للتسلسل الترتيبي نلاحظه في بيتين آخرين هما:
وقفت وما في الموت شك لواقف             كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة              ووجهك وضـــاح وثغـــرك باسم
إعادة التوزيع حسب ما رأينا محاكاة للتحولات الحاصلة على أرض الواقع لكننا نحتاج في ظل ذلك أن نتبين الأبعاد البلاغية والمضمونية التي يضطلع بها هذا الفن فنفهمها أنها تفيد ما يفيده التقديم والتأخير بين المبتدأ والخبر أو بين الفاعل والمفعول به وهو يهدف إلى الإبراز: يبرز لنما الشاعر صورتين متناقضتين بين الروم وسيف الدولة  بين بطل وأبطال لكنهم هاربون وهو واقف لكنهم جبناء وهو  شجاع بين منتصر ومهزومين بين مزهو فرح بما أتاه ربه وخائبين تقطعت أسلحتهم بين منيع يتجنبه الموت وناجين من الموت لأنهم غادروا ساحة الوغى. الفرق بين بين الطرفين ولذلك فإن الأمثلة التي سيوردها المتنبي هي إثبات واستدلال على هذه الفروق.
الفرق أولا في القوة ظاهر من الصور المستعملة في الاستعارة لما أظهر الشاعر العدو طائرا أفقده القائد قدرته بأن ضم جناحيه والصورة الثانية تظهر في التشبيه التمثيلي لنثر الموتى فوق جبل الأحيدب كما تنثر على العروس الدراهم فجعل بذلك مشهد الحرب مذكرا بمشهد الفرح كفعل عنترة لما تذكر عبلة والرماح نواهل منه فود تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرها المتبسم: هذا دليل على الارتياح والطمأنينة والثقة رغم هول الوضع وشدته وهو ما لا يتوفر بيسر إلا إذا توفرت رباطة الجأش.
الفرق ثانيا في التعامل وسط الحرب : إن كان سيف الدولة حسب التصوير للأحداث قد أظهره على الإقدام وقيادة الخيل وترويضها والبلوغ بها نحو المستصعبات بأي وضع تكون على أرجلها أو على بطونها أما الدمستق فإنه اختار الهروب " قفاه على الإقدام للوجه لائمُ " لا يقدر على توقع الأمور إلا بعد حدوثها أناني حتى أنه لينجو بنفسه قد ترك ابنه وصهره أسيرا ويشكر أصحابه أنه ما وصلته السيوف لأنها وجهت إليهم وانشغلت عنه. ذلك أبرزه المتنبي في أسلوب كاريكاتوري ساخر فيه ميل نحو تضخيم العيوب والبلوغ بها نحو الأقصى في مستوى الجبن والهرب والأنانية ...
الفرق ثالثا في مستوى الإيمان بحكم أن سيف الدولة يحارب للدفاع عن الدين بينما العدو ليس له إيمان بالتوحيد بل هو في خدمة الشرك لذلك فإن نصر سيف الدولة إعلاء للدين في مقابل هزيمة الروم هي إبطال لدور الشرك في الحياة مثلما أظهر المتنبي في المقابلة في البيت التاسع والثلاثين يقول:
ولست مليكا هازما لنظيره    ولكنك التوحيد للشرك هازم
الفرق رابعا في السلاح : سيف الدولة يستعمل السيوف ويحتقر الردينيات الرماح التي  يستعملها الروم فيكون الفرق في رمزية كليهما أن السيوف رمز للشجاعة وأن الرماح رمز للخوف والغدر وهو ما يحيلنا على مرجعية دينية تذكرنا بقتل حمزة بالرمح من مكان بعيد غدرا فترسح عند المسلمين أن الرمح أداة الغدر بينما المحارب الشجاع من يعتمد المواجهة عن قرب.
الفرق خامسا في الرفعة والمجد إذ سيف الدولة يتقدم قومه وعشيرته بسيادته عليهم بينما الدمستق يفرط في أهله وأصحابه بمفعول أنانيته. هذا التمييز لسيف الدولة استخدم له الأسلوب الهرمي في البيت الأربعين: تشرف عدنان به لا ربيعة   وتفتخر الدنيا به لا العواصم
Diagramme pyramidal



اعتمد المتنبي الإطالة في القصيدة فأحكم الربط بين أقسامها وتناول أهم الأحداث التي مرت بها الحرب بين سيف الدولة فأعان ذلك على فهم الأفكار والمقاصد واستطعنا أن نميز بين سيف الدولة والروم رغم المبالغة التي ظهرت حول الطرفين سواء في مستوى الإعلاء أو في مستوى التحقير والسخرية فكان ذلك أهم عامل في توضيح الصور.
غلبت على القصيدة الثنائيات والمقارنات بين الأعلى والأحط والشجاع والجبان والقادر على التغيير والقابل للأفعال من يبدع أفعاله ومن لا يملك الإبداع من يسعى بفكره وعقله لصالح المجموعة ولأجل الدين من جهة ومن ينشغل عن صحبه وأهله حتى ينجو بنفسه. هكذا عرض علينا المتنبي في معان حماسية حربية أعلن فيها التفوق للممدوح على حساب العدو واستخدم المتنبي لإعلان التفوق أساليب عدة أبرزها المزج بين الهجاء والمدح وأكثرها الكنايات والمقابلات مع صور الاستعارات والتشبيهات فيكون المتنبي بذلك قد صنع مجده الشعري وهو يستثمر مجد سيف الدولة العسكري.
اهتم المتنبي بالمدح ووظف له حتى الهجاء للعدو حتى يمرر فكرته ورؤيته أن العبرة ليست بالعدد والكثرة بل هي في ما تختزنه من تفوق نفسي وعقلي في إدارة المعارك خاصة نحو تحقيق الرفعة والمجد لكننا نلاحظ أن المتنبي يذهب للأقصى في معانيه فيضع ممدوحه في أعلى درجات المجد يتفوق على عدوه من يبلغ أسفل درجات الانحدار فماذا لو انقلبت الآية ودارت الدائرة في لقاء حربي على سيف الدولة العظيم الناصر للدين وانهزم على يد الروم الممثلين للشرك ؟



[1]  قصيد الألياذة والأوديسا لهوميروس
معركة بواتييه:
ثورة الأسبان على الجنيرال فرانكو:
[2]   يقال: إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك - بعد الخلفاء - ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها، ما ينفق لديها. وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به
[3]  نتذكر هنا قصة هارون الرشيد أمير المسلمين ورسالته إلى نقفور حاكم الروم لما امتنع عن دفع الجزية.
[4]  الحديث عن العلاقة بين الطير والجيوش في المدح ليست جديدة بل ذكرها عند المتنبي يذكرنا بقول النابغة الذبياني في إحدى مدحياته يقول:
إذا ما غزوا بالجيشِ ، حلقَ فوقهمْ
عَصائبُ طَيرٍ، تَهتَدي بعَصائبِ
يُصاحِبْنَهُمْ، حتى يُغِرْنَ مُغارَهم
مِنَ الضّارياتِ، بالدّماءِ، الدّوارِبِ
تراهنّ خلفَ القوْمِ خُزْراً عُيُونُها،
جُلوسَ الشّيوخِ في ثيابِ المرانِبِ
جوَانِحَ، قد أيْقَنّ أنّ قَبيلَهُ،
إذا ما التقى الجمعانِ ، أولُ غالبِ
لُهنّ علَيهِمْ عادة ٌ قد عَرَفْنَها،
إذا عرضَ الخطيّ فوقَ الكواثبِ