الأربعاء، 8 أبريل 2020

تحليل النص الثاني:" سر الأمان"  من مسرحية سعد الله ونوس :
" مغامرة راس المملوك جابر" /   تأليف : نزار الديماسي

لا تعوز الكاتبَ الحيلُ متى أراد تبليغ رسالة أو تبنى رأيا، فإنه إن لم يستخدم الواقع مباشرة فقد يجد ضالته في التاريخ يستثمره، أو في التراث يستلهمه على اعتبارهما حيلة من حيل التأليف. لا شك هذه الحيلة واضحة في نصنا :"سر الأمان" المأخوذ من الأعمال الكاملة طبعة بيروت سنة أربع وألفين بين الصفحتين: الواحدة والأربعين والثالثة والأربعين بعد المائتين لصاحبها سعد الله ونوس كاتب مسرحية: " مغامرة رأس المملوك جابر " التي ألفها بعد عودته إلى سوريا من فرنسا حيث تأثر ببعض الكتاب المسرحيين في أوربا وعمل على تطبيق اتجاهاتهم بنسخة عربية قد تتضح بعض جوانبها في نصنا الذي يرد بعد رفض العم مؤنس سرد سيرة الظاهر بيبرس متعللا أن التعرض إليها سيتم بعد التعرض غلى مثل الأحداث في الحكاية التي تبدأ في هذا النص، حيث يبين الكاتبُ عوامل استسلام الرعية لإرادة الراعي في إطار العلاقة بينهما مقارنا هذه العلاقة زمن الحكاية وزمن الفرجة.
فكيف استفاد الكاتب من التراث ومن القديم؟
وماذا يربط بين الإشارات الركحية والحوار؟
وهل ينال حقا ممثلو الرعية الأمان الذي آثروه؟
وإلى أي مدى يلبي تدخل الزبائن رغبة الكاتب في اصطناع تجربة كسر جدار الصمت  لدى الجمهور؟

ينقسم النص حسب المتخاطبين إلى قسمين إثنين: أولهما يمتد إلى السطر الواحد والأربعين حيث يتبين على لسان ممثلي أهالي بغداد في زمن الحكاية المفارقة بين ثبات الرعية على الخنوع والاستكانة في مقابل التحولات الحاصلة عند الحكام رغم بسط نفوذهم على الرعية. أما القسم الثاني فيمتد على باقي النص وفيه يتغير المتخاطبون فنعود إلى زبائن المقهى ونتبين أوجه الشبه بينهم وبين الممثلين وكأنهم يرون أنفسهم في المرآة.

نتبين من الوحدة الأولى أن الكاتب عاد إلى التاريخ وإلى التراث واستلهم من كليهما المضمون، وفن الكتابة وأسلوب التحول من الزمن الواقعي إلى زمن الحكاية (الماضي البعيد)
أما المضمون فإنه يتناول زمن سقوط الخلافة العباسية في عصر آخر خلفائها السبع والثلاثين. وأما أسلوب التحول فقد تم باستعارة إحدى الوظائف المتبعة منذ القديم سواء مع القصاصين في عصور الإسلام الأولى أو مع الحكواتيين قبل تطور التكنولوجيا الحديثة. اعتمد سعد الله ونوس على هذه الوظيفة ليراوح في مسرحيته بين نصين متوازيين أحدهما معاصر والآخر تاريخي ولتكون حيلته للربط بينهما. وهذا ما سيكشف عن فن الكتابة الذي يتبعه الكاتب وقد اتخذه من الأساليب القصصية المتبعة في الكتابات التراثية: نعني به أسلوب التضمين الذي يوازي عادة بين حكايتين تدعم إحداهما( المضـَـمّـَنـَة) الأخرى (المضمِّنة ) فكيف يضمن الحكواتي قصة أهل بغداد إلى قصة الزبائن في المقهى؟
تحتل الإشارة الركحية الواردة في بداية النص موقع البداية من الحكاية المروية. لذلك فهي تتولى التقديم العام للقصة بواسطة أسلوب الراوي المناسب، فنجده من جهة متفقا مع شكله وهو ينقل قصة عن الماضي بتكرار الفعل كان. ونجده من جهة أخرى متفقا مع أسلوب التقديم وهو يستعمل الأفعال في زمن المضارع" لا يستقر على وضع... يبيتون على حال ويستيقظون على حال... ثم تهدأ حينا...فلا يعرفون... يتفرجون على ما يجري..." ونعرف نحن أن المضارع يستعمل للتعبير عما يتكرر حدوثه. وفي الأشارة الركحية التي نحن بصددها: إن المتكرر يوجد عند عموم الناس في زمن الخليفة شعبان المنتصر بالله ووزيره محمد العبدلي. في ذلك الوقت  كانوا يتعرضون لتغير الأحداث وتقلبها ويعيشون تحت تأثيرها ولا قوة لهم ولا فعل، ذلك ما نتبينه من الأفعال التلقائية التي ردت في صيغة الإثبات " يبيتون ... يستيقظون... يتفرجون" ومن الأفعال الذهنية والإرادية وردت في صيغة النفي " لا يعرفون × 2 ... لا يتدخلون."
إن اعتماد شخصية الحكواتي حيلة من حيل الكاتب يصطنعها فيربط بواسطتها بين المشاهدة والتمثيل وبين زمن الحاضر وزمن الحكاية وليفصل بين صوتين للرواية بين الكاتب الراوي الأصلي والراوي الفرعي العم مؤنس، فنلاحظ أن الكاتب يتدخل في بعض المواقع فيحافظ على ارتباط النص بجنسه المسرحي لأنه إن ترك للحكواتي صوته ينطلق فسنكون أمام صوت واحد صوت القاص لا المسرحي وقد لا نجد إشارات في الكلام تشير إلى الإخراج كالتي نراها في الجزء الثاني من الإشارة الركحية في مفتتح نصنا.
الجزء الثاني الخاص بالكاتب يعلن عن الشخصيات التي تظهر على الركح ويتبين أنها تنتمي إلى الزمن القديم، غير أننا نلاحظ أن المشهد أمامنا يجمع ما لم نتعود عليه ألا وهو الاختلاط :" يتقدمون من الزبائن، ويتوزعون أمامهم." لا يخلو نفس المشهد من التشويش على المتفرج فرجة مباشرة: علام يصب تركيزه؟ إن الكاتب يعمد إلى ذلك عمدا في إطار اتجاهه التغريبي في المسرح الذي يقدمه. إذن كيف تقدم الشخصيات الجديدة ؟
لاحظنا أن الشخصيات الجديدة يقع إدخالها بصفة فجئية فلا ننتظر إنزال الستار ثم رفعه لإتمام عملية التغيير وإبدال الديكور  أو إنزال التحويرات عليه. لا شيء من ذلك يحصل إذ كل تحول يقع مباشرة ولا مسافة فيه للبرتوكولات القديمة في المسرح التقليدي فقد تم ما اصطلحنا عليه في المسرح التغريبي عند سعد الله ونوس هدم الجدار الرابع الذي يفصل بين الممثل والمشاهد وهكذا فإننا سنجد على الركح الزبائن يتقدمهم الشخصيات من الزمن القديم المذكور في خطاب الحكواتي نتعرف على عددهم وعلى جنسهم ولا شيء فوق ذلك حتى الإشارات الركحية تغيب فلا نعرف حركاتهم وتوزعهم . لكأن ذلك من الفراغات التي يتعمد الكاتب ليتركها إلى المخرج حسب الأوضاع عند العرض. هؤلاء ينطبق عليم ما ينطبق على الزبائن : إنهم يمثلون أهالي عصرهم ولذلك تغيب كل التعريفات التي تحصرهم في زوايا خاصة، ولا يبقى لنا من أدوات التعرف عليهم إلا الخطابات ومضامينها نفهم منها اهتماماتها وعلاقاتهم فيما بينهم...
انقسم الحوار بين الشخصيات الخمس إلى قسمين.
في الأول لا يحضر إلا الرجال فيتناولون موضوعا سياسيا يعددون فيها المناصب العليا للبلاد من الخليفة إلى الوزير فقاضي القضاة فالقواد والولاة. سبب الحديث عنهم تنصيبهم وعزلهم أنهما يتمان في القصور بمعزل عن الشوارع حيث العامة التي لا تتدخل في هذا الأمرِ . واضح من الحوار الذي يجري بين الرجال الثلاث تقديم طبيعة الحكم السائد في عصرهم إنه حكم استبدادي. لقد عبر عنه المتدخلون بجملهم القصيرة القائمة على التتابع بين شطرين ( جملة الظرف يتبعها جوابها أو جملة الشرط يتبعها جوابها أو النتيجة يسبقها سببها) ونلاحظ أن كل شطر تنطق به شخصية فتجيبها المجموعةُ كلها:     
الرجل الثاني  : وعندما يسمي الخليفة وزيره يأمرنا بطاعته.
المجموعة   : فنطيعه.
الرجل الثالث: وإن غضب الخليفة من وزيره ، وأفلح في عزله.
المجموعة    : أيدنا الخليفة ، وأعرضنا عن وزيره.
......................................................
الرجل الأول  :يأمروننا بالبيعة.
المجموعة    : فنبايع.
المفارقة في الحوار أن الشخصيات أهالي بغداد يطلعون على الواقع في قصور الحكام ويعرفون الأحداث ولكنهم لا يُسْمح لهم بإبداء الرأي والتدخل في شؤون الحكم. إنهم محكومون  بحسب القاعدة الاستبدادية إذا أمروا عليهم الطاعة والمبايعة، ولكنهم مع ذلك هل يسلمون؟
تتحدث إحدى المرأتين عن النتيجة أو خلاصة الحوار الدائر أمامها بين المجموعة:" ذلك هو سر الأمان في هذا الزمان." بعبارة فيها الكثير من الاختزال والإشارة إلى ما يستقر في اعتقاد الرعية أنها محمولة على اتباع ما يجبرهم عليه الراعي المستبد كما سيظهر لنا من القسم الثاني في حوار من يمثلون أهالي بغداد.
في القسم الثاني من حوار المجموعة أصبحنا نجد مساحة خاصة بالمرأتين كلتاهما تتدخل في نفس سياق الحوار وموضوعه حول علاقة الراعي بالرعية ولكن تدخل المرأة الأولى غير مركز الاهتمام في الحديث من مظاهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم (عمودية استبدادية تهميش...) إلى أسباب تلك العلاقة فنجد المتدخلين من الرجال يقوم على الشكوى من الشدة التي يلقونها من الحكام فيستعملون جملا طويلة يبدأها مخاطب ويكملها المتدخلون بعده، الإطالة في الجمل سببها أسلوب التعداد : فإذا ذكر الرجل الثالث مصدر ركونهم إلى السلم وطلب الأمان في علاقاتهم بأمرائهم فأتى بفعل "تعلمناه" في صيغة الجمع المتكلم نحن ( بما لا يستثني أحدا من الرعية ) وفي زمن الماضي ( بما يثبت استقرار التجربة واستمرارها )  فإن العلم لن يتعلق بالمعرفة والتكوين وإنما بتسليط العذاب عليهم حسب ما يظهر من تعداد المخاطبين كل وفق ما يتذكره من الأشكال ومن الأدوات والمكلفين بها فنجد السياط المرصعة بالمسامير والحراب كلها تسند إلى  رجال لا يعرفون الرحمة واللين يكونون جلادين أو حراسا يشبه الخطاب عيونهم بالزجاجية للمعانها وهي تشتعل بالشر.يضاف إلى ذلك الزجر التقليدي بوضع الرجال في السجون التي وصفتها المرأة الثانية باستعمال الكناية للدلالة أن سجن الرجال يبقى لمدة طويلة لذلك فأبوابها لا تفتح إلا من أجل الدخول:" ومن السجون التي لا تنفتح أبوابها إلا إلى الداخل."
تشكو في هذا النص المرأة كما يشكو الرجل ولكنها تختلف عنه أنها لا تتعرض مباشرة إلى التعنيف وأن مصابها بسبب ما يتعرض إليه رجالهن وأزواجهن وأحبتهن في السجون بعد انطباق أبوابها عليهم ووخز الحراب أجسادهم واهترائها تحت سياط الجلادين. المرأتان كأنهما تنطقان بصوت واحد إن أطلقتا استفهاما فالغاية منه التعبير عن القبول بالواقع والاستسلام وإن صدر عن شخصيتين إثنتين وكذلك هو الحال عند مشاركتهما في الجملة الثانية الطويلة التي بدأها مرة أخرى الرجل الثالث مستعملا فعل "تعودنا"  أثناء مشاركتهما في هذه الجملة تعبران عن مصير الرجال ومآلهم إلى الغياب وإلى القتل بسبب الوشايات أتفه الأسباب.
نفهم مما نحن بصدده أن الرعية تتصف بالضعف والعجز لأن الراعي أراد لها ذلك فخصص التعذيب والسجون للرجال وهو يدرك أن نتائجه لن تفرق بينهم وبين النساء في مجتمع لا يعترف لهن إلا بالسلبية ولا يكلفهن بأي دور من الأدوار . لذلك فإننا متى رأينا المرأة تشتكي فإنها لا تشكو حالها بل مصابها في ما يتعرض إليه الرجال. ولكأننا بذلك أمام درجتين من الظلم المسلط على الرعية: الأول عام بسلب الأهالي جميع حقوقهم وتسليط العقاب عليهم لأتفة الأسباب. أما الثاني فهو خاص بالمرأة على اعتبارها طرفا من الأهالي ليس لا وجود مؤثر لذلك فهي ضعيفة لا تحتاج إلى العقاب المباشر مادامت سريعة التأثر بما يحصل للرجل فهي تتأثر ولا تؤثر. فهل يمكن لمجموعة تتعرض إلى نفس ما تتعرض إليه المجموعة في نصنا أن تفكر في الخروج من واقعها؟
الإجابه عن السؤال تكمن في بنية الحوار بين من يمثلون أهالي بغداد في نصنا هذه البنية دائرية بحكم أنها انتهت من حيث ابتدأت بالتعبير الذي يقدم واجبات الطاعة والولاء إلى الحكام وإن تغيروا ولم يستقروا على حال فذاك شأنهم يعنيهم ولا تتدخل الرعية فيه بل إن النهاية في حوارهم وهي تكرر ما جاء على ألسنتهم سابقا نعتبره كاللازمة في القصيدة الشعرية. يكون محتواها شعارا يردده المخاطبون ويؤمنون به لكنه في نصنا ليس إيمان اقتناعٍ وعقيدة بل إيمان خوف ونجاة. فما هو رأي بقية ممن يحضرون على الركح من زبائن المقهى؟

الوحدة الثانية يقع التركيز فيها على الزبائن الذين انطلقت بهم المسرحية، وتنبئنا بذلك الإشارة الركحية السردية الموجهة للإخراج تعلمنا بانسحاب الممثلين عن الزمن القديم وتبقي على زبائن المقهى ولا يتم إنزال الستار من أجل الإعداد إلى المنظر الموالي وهي مرحلة لا نحتاجها بحكم أننا تعرفنا على اتجاه الكاتب لمسرحيتنا أنه يسعى إلى تأسيس مسرح خاص نتبينه أيضا في الحوار الذي سيدور بين زبائن المقهى.
 من المنتظر بعد المشهد الذي تم عرضه أمام الزبائن أن يترك فيهم بعض الأثر. وقد يكون من الطبيعي أن يفتح الحوار الذي سبق بين الزبائن تعليقا على المشهد وعلى موضوعه، لكننا نكتشف أن الحديث اقتصر على جمل قصيرة أقرب إلى اللهجة العامية فيها إسقاط المعلقين الإثنين الزبون الثاني والثالث لما شاهداه وسمعاه على وقتهما مستخدمين لذلك أساليب التأكيد كالقسم والنفي " لا راحت ولا جاءت" ... وفي هذا الموقع من النص حسب ما رأينا من الإشارات الركحية في مواطن أخرى بدا من الممكن ترك فراغات للمخرج عند العرض أن يعدد في خطابات التعليق أو يحصرها في المدى الذي أمامنا من الإيجاز. ولكن سعد الله ونوس لم يضف إشارة ركحية ترشد إلى ذلك عن عمد منه لاعتبار أننا ما نزال في البداية وأن المتابعة تبقى مسترسلة من المشاهدين لمزيد الفهم والتقدم في الأحداث ولهذا فإن الزبون الرابع لم يتدخل إلا لطلب المزيد من الشاي وذلك في مقاهينا الشعبية قد يحيل أو يكني على مزيد التركيز لذلك فإن لحظة التدخل والتعليق قد تتأخر حسب الكاتب ولذلك فإن الصمت هو الذي يسود لولا تدخل الزبونين المتقاربين منذ البداية والمنعكس من حوارهما في الأول موقفهما الرافض للواقع ومن هنا فهما كانا أسرع لإبداء رأيهما حول ما شاهداه لأنهما انطلقا في الخوض حوله أصلا.
رغم أن التعاليق قصيرة وقليلة فإن الكاتب يستغل هذا التحول المعروف في المسرح الكلاسيكي بالاستراحة ليتدرج في اعتماد مسرح التسييس. فيصطنع لأجل ذلك خطابات تصدر من زبائن المقهى يعوض بها الكاتب ما يريد للمشاهد الحقيقي أن يتحلى بها. غير أنه في الوقت الحاضر لا يمكنه ذلك ولا يمكنه أن يرتجل الحوار الذي يسعى الكاتب أن يتحقق وقت أداء المسرحية، فهو يريد من ذلك أن يبين المتفرج أنه التقط الرسالة من الممثل وأدرك أنه معني بما يُنقل أمامه في المشاهد فيعبر عن واقعه وينتقده، وقد تكون تلك هي البداية نحو الفعل. لكن سعد اله ونوس بحكم حداثة التجربة لا يجد هذا ممكنا في مشاهد عصره فيستدعي له مشاهدا خياليا يصطنعه من زبائن المقهى خلال الاستراحة التي لا تطول وتعيد الصوت إلى الراوي الفرعي الحكواتي.
أهمية الإشارة الركحية بعد عودة صوت الحكواتي تتمثل في أنها تساهم في دفع الأحداث بواسطة المعلومات التي تقدمها وبإشارتها إلى المنعرج الأول في المسرحية عند تلخيص العلاقة بين الخليفة ووزيره التي تطورت من الوفاق إلى الشقاق ومن الشقاق سرا إلى الشقاق علنا. وذلك ما سيحدث تحولا على مستوى الأحداث وخاصة في مستوى العلاقة بين الراعي والرعية. فنحن إن رأينا الرعية ترضى بضعفها واضطهاد الحاكم لها فإنها بعد تحول السلطة إلى سلطتين قد تجد نفسها أمام ورطة لم تصنعها ولكنها متأثرة بها. إذ لم تعد الطاعة هي الطاعة سابقا ولا المبايعة هي المبايعة سابقا. مع الصراع بين الخليفة والوزير يصبح الخلع في قفا المبايعة والعصيان في قفا الطاعة فكيف للرعية أن تتخلص من الورطة؟

واضح من النص أن الكاتب يشخص الواقع من حوار المتدخلين ويتعرض إلى العلاقات التي تحكم الراعي والرعية في عملية تهدف أن تسترعي انتباه المشاهد لتحمله على التدخل في المواقف وتحويلها إلى آراء يتبناها. لكن هذا السعي من قبل الكاتب يقف أمامه عدم استطاعة ميسرة بسبب العوائق الثقافية التي لا تستجيب لبداية المشروع المسرحي لسعد الله ونوس بالسرعة المناسبة.

يعالج النص طبيعة الحكم الاستبدادي وما يتولد في ظله من نتائج تتعارض مع رغبة الحياة عند اأفراد. ذلك ما كشفت عنه مجموعة من الثنائيات تم التطرق إليها في سياق النص بالتعرض إلى اتساع الهوة الفاصلة بين الراعي والرعية وقهر المرأة بقهر الرجل لأسباب إما واهية وإما ضعيفة ولكنها تترتب عنها شدة في العقاب وتنوع في العذاب. كل ذلك يتأدى في الحوار بشخصيات تختلف أرقامها ولكن أصواتها تتحد بلغة لا تخلو من الشكوى ومن نبرة الاستسلام والرضا بالواقع وقبوله على مرارته.

لئن ميز النص بين فضاءين ومكانين يختلفان بما يحتويان في توزيع الشخصيات ولغة خطابها فإن القضايا التي طرحها بدت واحدة. فارتبطت القضايا بالطرف الذي يقع عليه الاعتداء ويظهر ضعفه فيرده كله إلى الطرف المتسلط عليه وكأنه بمنأى عن تحمل أي طرف في مسؤولية ضعفه. فهل يكون لهذا الضعف عند المغلوب عاملا يدفع البناء الدرامي في المسرحية؟

 تأليف: نزار الديماسي


السبت، 28 مارس 2020

تحليل النص الأول: السنة الرابعة آداب
في انتظار العم مؤنس

العناوين
التحليل
الملاحظات
المقدمة
التمهيد




تقديم الكاتب





الموضوع




مراكز الاهتمام: التذكير  أنها لا تعيد تركيب الأسئلة المصاحبة بل هي طريقة في توضيح أسلوب التعامل مع منهجية التحليل


الجوهر





الوحدات المعنوية: يقع التقيدبها في تحديد عناصر التحليل










تحليل الوحدة الأولى: 






الصورة العامة للمقهى ولشخصياتها







الإشارات الركحية


التمييز بين المرئي والمسموع












اإشارات الركحية المساعدة على الإخراج







































الشخصيات

























الشواغل اليومية


















مسرح التسييس















لغة الخطاب


















تحليل الوحدة الثانية: السؤال عن قدوم العم مؤنس

علاقة الإشارة الركخية ببداية المسرحية
















صورة العم مؤنس مما يقدم في حوار الزبائن الجماعي














لغة الخطاب




































الشخصيات











































تحليل الوحدة الثالثة: حضور العم مؤنس وعدم استجابته لسرد الحكاية التي يطلبها السامعون
العلاقات بين الشخصيانت

























































الإشارة الركحية






















































التدرج في الحوار




























الاختلاف بين نظرة العامة ونظرة المثقف للتاريخ


















التقويم













التأليف

















الخاتمة

الإجمال




الموقف

الأفق

اعتدنا عند العروض المسرحية حضور صورة واحدة لشكل الفضاء الذي يقوم على التقابل بين مساحة  الأدوار التمثيلية (الركح)، ومساحة المشاهدة (الجمهور) خلافا لما عليه الصورة التي يصطنعها لتوزيع العلاقة بين الممثل والمشاهد الكاتبُ المسرحيُ السوريُّ المعروف بميله إلى التجريب والتغيير في نصوصه المسرحية سعد الله ونوس. وذلك في بداية مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" المضمنة في الأعمال الكاملة للمؤلف التي يقتطف من بين صفحاتها السادسة والثلاثين والتاسعة والثلاثين بعد المائتين نصُّنا تحت عنوان"في انتظار العم مؤنس" حيث يقع التعرض إلى الاهتمامات التي تشغل زبائن المقهى في انتظارهم لقدوم العم مؤنس،وإلى ما يخيب أفق انتظارهم منه عند قدومه وإملاء اختياره عليهم.
وهكذا فإننا سنركز الاهتمام في تحليلنا للنص على ما يجمع الزبائن في المقهى وعلى ما يشغلهم، وعلى مظاهر التغريب التي تتضح من الإشارات الركحية خاصة وعلى ثنائية الطلب وخيبة الأمل في الحوار الدائر بين الزبائن والعم مؤنس الحكواتي.   

ينقسم نص "في انتظار العم مؤنس" حسب شواغل الشخصيات في الحوار إلى ثلاث وحدات:
أولاها تنتهي عند السطر الثلاثين نجد فيها صورة عامة للمقهى ينشغل فيها حرفاؤها بما يعنيهم في حياتهم اليومية. وفي الوحدة الثانية الممتدة إلى السطر السادس والأربعين يتحول اهتمام الحاضرين بالسؤال عن قدوم العم مؤنس قبل قدومه. وفي باقي النص الوحدة الثالثة، يحضر العم مؤنس ولكنه لا يستجيب لرغبة المشغولين بحكايته الجديدة ويفرض عليهم ما يختاره.
ينطلق النص وهو نفسه بداية المسرحية بإشارة ركحية مطولة ذات أحد عشر سطرا، تتوزع على أربع فقرات.  تطغى فيها الجمل الإسمية بما يتناسق مع البدايات التي يتولى فيها الراوي تقديم المكان ومؤثثاته وشخصياته ومميزاته ... فيستعمل لمثل ذلك الإشارات الركحية الوصفية.
تحمل البداية تعريفا للمكان وهو مقهى شعبي تتكاثف فيه بعض الصور منها المرئي: كتبعثر المقاعد بين الأرجاء وانتشار الزبائن انتشارا صنع فوضى وسمها الكاتب بالشعبية بسبب تناولهم الشاي والنرجيلة وحركة الخادم بينهم ... فيولد ذلك تعددا للحركة وسط مكان محدود من حيث مساحته، وهو ما لابد أن يؤثر في الجانب الثاني من الصور وهو المسموع الذي يتمثل في صوت قرقرة النرجيلة وضجة الكلام والأغاني تنبعث من راديو عتيق ...
إن في الجمع بين الصور المرئية والمسموعة المختلطة في مقهى شعبي يستقبل أصحابه البسطاء يحيل على فئتهم الشعبية ويوحي بوضعهم الهامشي. ولعل ذلك ما سيعمل الراوي على تثبيته من التوصيات التي تقصد الإخراج وترد في جزء من الإشارات الركحية الوصفية لإرشاد.
واضح من بعض الإرشادات التي تقطع الجمل الوصفية أن الكاتب يريد تنفيذ تصور ما يرتئيه ولا يقبل من التمثيل الركحي أن يحيد عنه فهو يختار للخادم أن يبقى مستمر الحركة على امتداد السهرة رغم وجوده على مساحة العرض لا في مساحة الفرجة،وكذلك في برنامج المؤلف لا توجد حدود للأغاني ولعددها ولامتدادها ولعناوينها ولمن يؤديها ،هي مفتوحة على الممكن حسب شرط التآلف الذي يتحقق عند الجمهور: لا تبدأ المسرحية إلا باسترخاء المشاهدين وإحساسهم بالطرب من جهة أو "حسب تقدير العاملين في المسرحية" من جهة أخرى.
وهنا فلأننا قلنا إن الكاتب يسعى إلى أن يحافظ على تصور يحمله للمسرحية فيجب أن نتبين أبعاد الإشارات التي شذت عن المألوف المسرحي وألقت أمامنا حضورا للركح وللمشاهدة لم نعهدهما في المسرح الأرسطي التقليدي، ولسنا بهذا القول نكتشف جديدا بل إننا ندركه بحكم أننا على معرفة بالكاتب سعد الله ونوس ذي التوجهات التغريبية التي تأخذ من مسرحيين تأثر بهم في الغرب1 حيث أنه في هذا المسرح يفك كل أنواع العزل بين المتفرج والممثل وينزع عنه الجدار الرابع الستار الفاصل بين مساحة العرض وقاعة الفرجة وذلك ما يظهر في البداية حين يقول:"نحن في مقهى شعبي، ثمة عدد من الزبائن يتفرقون ..." يستعمل ضمير المخاطب نحن ليصير الإدماج بين المؤلف والجمهور وزبائن المقهى (وهم من شخصيات المسرحية) في مكان واحد هو نفسه المخصص للعرض وللمشاهدة. ولذلك فإن خادم المقهى بدوره لن يكف عن الحركة وعن الذهاب وعن المجيء وكأنه يضطلع بدورين: أحدهما داخل المسرحية بصفته خادم المقهى وآخر خارج المسرحية يماثل دور ساعي المشربة التي عادة ما تكون في المسارح.
اعتمادا على ما ذكرنا من خاصيات البداية المسرحية غير المعتمدة على ما يحدد وقتها ومن مظاهر التغريب ننتظر أننا لن نكون مع أدوار عادية للشخصيات ولعلاقاتها وللغة خطابها ولشواغلها ... فكيف سيتم تقديم الشخصيات المذكورة في الإشارة الركحية التي ذكرنا؟
تغيب في هذه البداية الإشارات الركحية التي تعودنا أن تقدم الشخصيات وتعرفنا بها على مختلف مستوياتها المادية والمعنوية، حتى عند حوارها لا تعين بأسمائها بل لا تذكر إلا بأرقامها زبون 1 وزبون 2 ... وكأن هؤلاء ما هم إلا رقم من الأرقام تعود أن لا يوصف به إلا الذين يعيشون على الهامش وتنفرهم الحياة أو ينفرهم المجتمع فيفتقدون إلى القيمة والفعل ليس لديهم اهتمامات ذات بال يولون إليها وجوههم ويستغرقون فيها أذهانهم. لذلك تراهم في مفتتح المسرحية جلسا لا طلب لهم ولا غاية إلا ما يستهلكون لشرب الشاي وتدخين النرجيلة (رمزي الطبقات الشعبية الكادحة) :"زبون 1 : فنجان شاي ثقيل ونارة"  حتى إذا ما تحدثوا وأثاروا موضوعا فإن موضوعهم لن يخلو من الشكوى، نأخذ المثال على ذلك الحوار بين الزبون الأول والزبون الثاني، فنتبين كيف استحال السؤال عن الصديق المشترك "أبو إبراهيم" وتبليغ سلامه إلى مناسبة للفضفضة وتذكر الهموم:
"زبون 3 الله يساعده ويساعدنا. ومن منا خال من الهم؟
زبون 2 في هذه الأيام .. والله لا أحد."
نلاحظ في هذا المثال أن التعرض إلى هموم "أبو إبراهيم" وهموم الجميع قد وردت عامة تشبه ما لاحظناه حول عدم ذكر أسماء الزبائن فنستنتج من ذلك أن الارتباط بين الشخصيات وهمومها وثيق الصلة بواقع الطبقة التي يسلط عليه الضوء الكاتب سعد الله ونوس وهي التي لو ترك الحديث عنها بالصورة التي نقدمها فإنها لن تعي نفسها ولن تقف أمام مرآتها وترى ضعفها وهوانها وسخف حياتها. نلمس هذا الأمر في العلاقة بين الزبون الأول والخادم المبنية على طلب الشاي والنارة ونلاحظ أن النقاش يثار بينهما ولكنه يتناول درجة خفة الشاي أو ثقله. هل ذلك هو حال الأعيان والمترفين البرجوازيين؟ هل إذا التقوا حول الشاي جعلوه كبير همهم؟الجواب طبعا :لا، إنهم إذا ما التقوا جعلوا الشاي بينهم شاي عمل أي: للكسب والتقدم.
الشخصيات وما عبرت عنه من همومها وشواغلها نراها تمثل اتجاه المسرحية يقصد إليه سعد الله ونوس، فيريدها فضاء "تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته"2  يتجه الكاتب إلى أن يوقظ في المشاهد نشاطه الفكري وأن يكسر بذلك جدار الصمت عنده. إنه بذلك يضعه أمام أمر ما يهمه ويعيشه في ظل ما يعرفه الكاتب بمسرح التسييس، لن يتخلى عما يمكن أن يصطنعه في سبيل أن يخدمه في ذلك، حتى لغة الخطاب بين زبائن المقهى.
 نرى أن الكاتب أراد من لغة الحوار في الوحدة الأولى بما أننا أمام البداية، أن يعمق تجربة تشديد الصلة بين المشاهد ومن يتابعه: إذا ما سمع الأصوات فكأنه يستمع إلى صوته في المقهى تقول الشخصية ما يقول وتسمي الأشياء بالأسماء التي يسميها"يا أبو محمد" بدلا عن يا أبا محمد و"شفت" بدلا عن التقيت ... وكذلك في وصف الشاي "تقيل" بدلا عن ثقيل...
إذن إدخال العامية على الخطاب في الحوار الموجه إلى الخادم خاصة يوثق الصلة بين الشخصيات وواقعها الذي تنسلخ عنه لو وقع اعتماد عبارات من درجة مغايرة مثل: التقيت اليوم أبا إبراهيم وإنه ليقرئك السلام، عندها سيحدث لدينا انطباع ينسف كليا اختيار سعد الله ونوس لمسرح التسييس ومسرح التغريب الذي يتدرج إليه بإقحام شخصية العم مؤنس لتقديم الحكاية من أجل إخراج الحاضرين من الجو الكئيب والرتيب.فهل يكون ذلك مبرر انتظار الزبائن للحكواتي؟

العم مؤنس بطل الوحدة الثانية بالغياب، نبدأ بالتعرف عليه مع تناول الآخرين له، وندرك مع السؤال عنه من قبل الزبون الرابع أن بداية المسرحية ظهرت شروطها وذلك في الإشارة الركحية التي تسبق سؤال الزبون الرابع في السطر الواحد والثلاثين تذكيرا بما ورد في الإشارة الركحية المطولة: كون البداية قد تتأخر مادام الحاضرون لم يشعروا بالطرب لاستماع الأغاني خلاف الوصف في الإشارة التي نذكر:"تسود ضجة الأغنية فترة،يبدو فيها الحاضرون،وكأنهم يصغون باستمتاع..." ساعدتنا هذه الحالة من المستمعين على تغيير مجال الاهتمام أصبحنا نفكر في الخروج من الأجواء التي تسود المقهى وقد لا يكفينا الغناء وحده بعد إتمام وظيفته في الإمتاع: إذن ينتاب الجميع شعورٌ بالحاجة إلى ما يشدنا إلى البقاء في نفس المكان الذي ينبغي أن يستمر جاذبا لا منفرا. فمن سيكون صاحب الدور في هذه الحالة؟
   لئن كان الحوار في الوحدة الأولى ثنائيا تعلو فيه الأصوات من جهة ليلتبس بالجماعي كما في طلبات الزبائن من الخادم وفي تلبيته مطالبهم أو تخف فيه الأصوات من جهة أخرى كما في حوار الزبون 2 مع الزبون 3 فإن الحوار في الوحدة الثانية لن يكون إلا جماعيا، إذا أرسل فيه المتحدث خطابا تلقاه الجميع وأجاب عنه بعضهم أو أحدهم.
 هذا المشهد الجماعي يعطينا فكرة عن موضوع الحوار الأوحد وعن مكانته بين رواد المقهى. فمم استمد الرجل هذه المكانة التي يكتسبها وتتضح من الحوار الجماعي بين الزبائن ومن إجماعهم حول حول انتظاره بحكم حاجتهم إلى قدومه؟
لم يعد الخطاب في الوحدة الثانية عاميا يوميا كما كان في الوحدة الأولى بل بل أصبح وظيفيا فتولت اللغة دور المساعدة على اكتشاف ما سيرد في تنامي أحداث المسرحية، لأننا بالسؤال عن قصة تأخر العم مؤنس من الزبون 4 ومن الاستفهام الدال على التضجر من تأخر العم مؤنس في كلام الزبون 5:"ألن يأتي العم مؤنس اليوم" وفي مقابل ذلك نجد الجمل المثبتة التي تأتي على لسان الخادم وعلى لسان الزبون 1 كلها تلتقي حول إثبات إتيانه في نفس موعده إلى المقهى، وتستند في ذلك إلى حجج متنوعة: منها ما يركز على صفات الشخصية عند تشبيهه بالساعة كونه ملتزما لا يتخلف عن مواعيده. وإلى جانب ذلك نجد الحجة التي تستند على التجربة:" زبون 1 : لم يتخلف يوما منذ عرفناه."فيصبح ذلك بمثابة الحكم القاطع الذي يعتمد على ما تعود العم مؤنس. ومن غلب الإحساس وتيقن "لا ريب أن العم مؤنس سيأتي"
وهكذا يغلب اليقينُ السؤالَ والخيرةَ ويتطور الخوار ليتجاوز تأخر العم مؤنس فيتناول الحديث عما ينتظر منه بعد قدومه: أنه سيبدأ سرد حكاية جديدة.
يتضح من التعرض إلى لغة الخطاب المسرحي أنها تتغير بحسب تكييفها في المسرحية فإذا كانت تخدم جانب التسييس الذي يريده الكاتب فإنها تقترب إلى المستخدم اليومي لتكون أقرب إلى ما يعيه المشاهد. بينما هذه اللغة إذا استعملت للمساعدة على أداء دور في الإضافة للمسرحية من جانبها الفني تغلب عليها الفصحى تنير السبيل أمام ما سيأتي من أحداث وتستخرج ما في باطن الشخصيات لا نستدل عليه إلا بما تلفظه.
ذكرنا أن الشخصيات الواردة في بداية المسرحية قد لا تبدو إلا أرقاما لا تعرف إلا بانتمائها الطبقي وننتظر متى تتناول موضوعا مخصوصا حتى نكون حولها حتى صورة جزئية، نراها في هذه البداية تنحصر في مستواها النفسي، وقد يشغلنا في هذا الإطار الزبونين: الثاني والثالث كلاهما يبدو أقرب إلى الآخر ويظهران أنهما يشتركان في المواقف.
اختلفا عن كل الحاضرين في الوحدة الأولى بالشكوى من قسوة الحياة، ويختلفان كذلك في الوحدة الثانية ظرفيا عندما يستثار الحديث عن انتظار العم مؤنس فيعبران عن موقفهما من الحياة وكأنهما يطلبان الموت ولا يجدانه:
" زبون 3 : والله نعيش من قلة الموت.
 زبون 2 : ماذا نفعل؟ الأمر بيد الله والمهم سترة الآخرة."
ولا يختلف تدخلهما عندما يشاركان الجميع في حديثهم عن حكايات العم مؤنس فيتحدثان عن النهاية القاتمة وعن عدم وجود ما يفرح في الحكايات "من زمان".
نفسية كلتا الشخصيتين تعكس حال من لا يرى في الوجود شيئا جميلا يبلغ به اليأس مداه وأقصىاه ويستدعي من حوله الهموم والأحزان التي تحملتها كل النفوس المهزومة في زمن تأليف المسرحية سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف بعد سنة من الهزيمة العربية في الحرب ضد إسرائيل3 لما استفاق العرب على واقعهم المرير أنهم فاقدون للكرامة على المستوى الفردي ويضاف إليهم فقدانها على المستوى الجماعي. فكيف لهم أن يقفزوا عن هذا الواقع؟ وأين يرون خلاصهم؟ هل بالاستماع إلى القصص تكون نجاتهم؟
لعل في التفاف الزبائن وفي ثورتهم العاطفية وهم يتوقعون قدوم العم مؤنس وبدايته لحكايته الجديدة محاولة لنسيان الواقع الأليم وهروبا منه للبحث عن الجديد المخلص لهم. فهل يجدونه في العم مؤنس أو في حكاياته؟

لاشك أننا تعرفنا على العم مؤنس في الوحدة الثانية من الحوار المتبادل بين الشخصيات عنه، وكونا صورة حوله أنه شخص ملتزم في مواعيده لا يتخلف عنها مطلوب عند الجميع لأنه يسليهم بحكاياته رغم أنها لم تعد تفرح السامع "من زمان". ومع هذا الأمر لعلنا لم نكن لننتظر أن يلقى الزائر من شخصيات المقهى كل تلك الحفاوة وذلك الاستقبال وكأنه الشخصية المرموقة يسمعون عنها ويأتيهم للمرة الأولى. يظهر أنه وافد مبجل فيكلف الخادم نفسه استقباله من طرف المقهى بعد أن يخبر من في الداخل أنه قد جاء، ويردد الجميع عبارات الترحاب والسلام عليه بل وينشدون كلهم:" جاء العم مؤنس" والملفت أكثر من ذلك قولهم:" بان القمر".
مشهد الاحتفال هذا لا يقابله إلا استقبال كبار الشخصيات، وذوي المقامات وقد يذهب إلى ظننا ما في نفس المشهد من تلاق بينه وبين استقبال أهل يثرب للرسول (ص ل ) مهاجرا إليهم من مكة.ولسنا في ذلك نبالغ خاصة ونحن نقارن بين " بان القمر " و"أقبل البدر علينا" نجد نفس الاستعارة في موقفين يقتربان من حيث المناسبة مناسبة الاستقبال والاستبشار بالقادم على المجموعة لأنه يحمل لها أملا في الخلاص من الواقع المتردي والعالم المنهار. ولا نريد أن ننساق أكثر مع هذا التشبيه عندما نستعيد الإشارة الركحية التي تصف حركة العم مؤنس البطيئة: " يتقدم بحركة بطيئة، حاملا بيده كتابا سميكا وعتيقا"
إن العم مؤنس بالنسبة إلى المجموعة كأنه قائدها بصفته الشخص الفرد في مقابل المجموعة وباعتباره حامل المعرفة التي تخفى عنهم.ولأنه متى نطق وجب على الجميع أن ينصتوا له ويقطعوا الأصوات وإن أطربت:
" زبون 5 أقفل الراديو مادام العم مؤنس قد وصل."
إذن العلاقة بين المجموعة : زبائن المقهى ، والفرد: الحكواتي كما تبدو من البداية تؤسس لعلاقة عمودية طالما لاحظناها في المناسبات التي ارتبطت فيها الشخصيات على أساس سرد الحكايات بين شهرزاد وشهريار وكذلك بين بيدبا الحكيم ودبشليم الملك4 . هذا في ما يربط بين الطرفين فماذا في شخصية الحكواتي من صفات ذاتية تجعل منه الشخصية الفاعلة؟
إن الحكواتي وحده من بين الشخصيات من يتم تعيينه وتعريفه فهو محل تقدير الجميع  باستعمال لفظ العم عند ندائه والتعرض إليه حتى الزبون الرابع نجده في موضع من النص قد نزع عنه اللقب ولكنه عاد وذكره. وهو من بينهم الوحيد من يحمل اسما لا رقما ولا كنية كالخادم: ورد اسمه مشتقا على وزن اسم الفاعل من الأنس. فاسمه يتطابق مع  نفس الدور الذي يؤديه تجاه المجموعة عند زيارته لهم في كل يوم. وكذلك الحكواتي وحده من بين الشخصيات في البداية من تخصص له إشارة ركحية للتعريف به ولتقديمه.
امتدت الإشارة الركحية الوصفية المتعلقة بشخصية الحكواتي على فقرة. ورغم طول التقديم لشخصيتنا فإننا لا نطمئن أن الوصف قد أتى على كل أوصافها: اكتفى الراوي هنا بالجانب الظاهر منها ولم يتناول أي جزء باطن فيها.
يتخذ الراوي في الإشارة المذكورة درجة الرؤية مع لا يعلم عن الشخصية إلا ما ينبغي أن يعلمه عنها المشاهد نفسه فلا يتعدى إلى العلم بالأسرار والخفايا، ويتأكد هذا القول بنوع اعبارات المستعملة من قبيل " حتى ليحس المرء ..." أو " توحيان " أو " أهم ما نلحظه.." جميعها لا تقدم انطباعا أن الراوي يتميز بالعلم الإلهي أو من درجة أعلى بل هو ذاته يقف على الحياد ولا يغوص في مستوى الشخصية حتى لا يقدم لنا عنها ما يمكن أن يوجه القراءة نحو قراءة الكاتب ، والحال أننا عرفنا اتجاه سعد الله ونوس أنه يريد من الجمهور أن يصل إلى درجة الوعي بنفسه وأن يقاد إلى الفعل من داخل المسرحية ويكسر جدار الصمت ويرتجل أقواله ... فلذلك يصطنع الكاتب مختلف الوسائل الفنية لتغلب تلك الغاية وفي حالتنا هذه فإن الحياد يساهم في التخلي عن دور الإيهام الغالب في المسرح التقليدي ويحقق دور المسرح التغريبي والتسييسي الذين ذكرنا معا. وهكذا قد تكون شخصية الحكواتي التي يتنازل لها الكاتب عن دور الرواية في الحكاية المضمنة التي ستظهر فيتحول كلاهما ممثلا للآخر يروي ما سيروي ولا يتدخل بالانفعالات والأفكار حتى يترك للسامعين أن يقولوا ما رأوا قوله لا ما يراه الآخرون. لكن ألا يختلف هذا القول مع مخالفة العم مؤنس للراغبين في الاستماع إليهم وهو يرفض أن يستجيب لهم من أجل سرد سيرة الظاهر بيبرس؟
 إن تخلي الكاتب عن دور الراوي العليم، جعل القراء على نفس الدرجة مع الزبائن لا نعلم أي معلومة عن المستقبل. وذلك لأن من يروي يتعمد الإخفاء ولا يعلن عن برنامجه فيخدم بذلك التشويق ويشد المتلقي على خلاف اتجاه التغريب الذي يتعمد التشويش على عملية التلقي كما هو الشأن في هذا النص مع الحركة الدائمة لخادم المقهى.
ننتظر في إطار الشراكة التي تتواصل بين العرض والمشاهدة أن لا يهمش الكاتب أو المخرج حق المتفرج في الاختيار وأن يجمع  القصة المروية إلى الفراغات التي تُركت مثلها مثل الأغاني المنبعثة من الراديو القديم ومثل وقت البداية ... لكن الحوار في سيرورته يقلب الميزان ويكشف عن مجال يترك للراوي حتى يتحكم في تناوله أرضيه المشاهدون أم لم يرضوه.
نلاحظ أن الحوار تطور وغير من صورة العلاقة بين العم مؤنس والزبائن : فقد حول هذه العلاقة من الاتصال إلى الانفصال وذلك لأن العوامل الممهدة إليه كانت موجودة من البداية. أهم هذه العوامل للاختلاف بين الشخصيات : فإذا كان العم مؤنس صاحب الحياد البارد الظاهر على وجهه ويملك نظرة إلى التاريخ كما سيظهر من بعد فإن الشخصيات الأخرى تعتبر التاريخ وسيلة تسلية: " السهرات مضجرة لولا رواياتك." " لولا العم مؤنس ما كنا نعرف كيف نقضي السهرة." ويغلب على سلوكها الانفعال والانطباع ظهر ذلك في التمجيد لأيام الظاهر بيبرس من الزبونين الذين كشفنا مللهما سابقا من الحياة وهما الثاني والثالث ثم يغلب الخطاب الانطباعي عند طغيان موجة الرفض والتهجم على القائد بوصفه يرفض طلباتهم ويخيب أملهم من زمان " منذ نهاية الصيف الماضي" ومع هذا فإن صوت الفرد يغلب ليحصل للجماهير عادة أن تصيح وتنشر جلبتها ولمنها في النهاية تقبل بأمر الفرد وتنصاع له.
هل تلك هي تدخلات الجمهور التي يصطنع سعد الله ونوس شكلا من أشكالها في المشهد الذي يقدم في الخلاف بين الحكواتي والمتقبلين له ويقصد أن تتولد في المواقف المسرحية التي يغلب عليها الأصوات المرتجلة؟ وهل هي مباحة إلى النهاية لا أحد يصدها؟
إن الذي وضع حدا للأصوات هو الرد الهادئ من العم مؤنس رغم الضجة بعده :" ما جاء دور الظاهر بعد." أقفلت هذه العبارة جميع ما جاء على لسان المتدخلين وخاصة الأكثر تشاؤما من بينهم ( زبون 2 مع زبون 3 ) بكل ما تحمله من مواقف للتاريخ لم يفهموها هم بعد ويفهمها من ينتمي إلى الحقل الثقافي كالحكواتي يجر إليه الزبائن ليتعاملوا مع التاريخ لا باعتباره وسيلة للتسلية وإنما بحكم أنه أداة لامتلاك لحظة الوعي وأن الأحداث التاريخية ليست منقطعة عن بعضها بل هي تفاصيل تتركب من بعضها حسب تركيب متسلسل وفق قوانينه الزمنية والمنطقية. لذلك فإن الأوان لا يتناسب مع سرد سيرة الظاهر بيبرس حيث البطولات والأمجاد. إنه يتناسب مع القصة التي اختارها العم مؤنس ويخفيها إلى حد الآن عنهم ولكننا نتدرج حسب الحوار المتباين إلى التعرف على موضوع القصة الجديدة: فلن يكون إلا معبرا عن واقع الهزيمة وعن الضعف والتردي...

لقد وجه سعد الله ونوس منذ البداية باعتبار أن هذا النص يقع في منطلق المسرحية تقنيات الكتابة إلى الإعلان عن مشروعه المسرحي التغريبي والتسييسي في إطار فك الارتباط مع الضواهر المسرحية القديمة, ليصبح الجمهور متجاوزا لمشاركته بالحضور والتفاعل دونما أن يمتلك دور المبادرة والفعل ، غير انه مع هذا السعي لم يوفق إلى القطع الكلي مع الاتجاه النخبوي لأن الجمهور رغم إرادة افتكاك المبادرة ارتد واستسلم للإرادة المختلفة .

تقدم النص بصورة تتطابق مع قوانين البدايات حيث ينبغي أن يضع تجربة الكاتب في إطارها ويقدم مشروعه ويعلن عن عناوينه التي نفهمها من الأشكال الفنية المختلفة الحاكمة في بناء العمل المسرحي. هذه الأشكال الفنية تنبه إلى واقع ملموس تعيشه البلاد العربية في زمن الهزيمة والتراخي وتطلب من المثقف أن ينشر بواسطة الفن الإحساس بالواقع المتراجع، لينهض بوعيه ويدفعه إلى الفعل والتغيير بالانتماء إلى الثقافة التي يعمل الكاتب على إرسائها في مرحلة التسييس.  ولقد ظهر من النص أن الكاتب استجاب إلى مقتضيات مسرح التسييس الذي يهدف إلى إشراك المشاهد لكنه مع تطور فعل الكتابة لم يتخل عن عناصر التوجيه وفرض الحدث عليه ( المشاهد )

تدرج الخطاب المسرحي بمختلف أشكاله الفنية ليحقق البدايات وليعلن عن مشروع مخالف في مسرح سعد الله ونوس استند إلى تأسيسه على متغيرات الواقع الجديدة وأوكل مسؤولية فهمها وتفكيكها إلى قدرة المثقفين على ذلك وكأن هناك استنقاصا لباقي الشرائح أنها عاجزة ولا تملك الوسائل. فهل يملك المثقف الذي يتعامل مع واقعه ويفككه القدرة على تعبئة الجماهير كما يفكر سعد الله ونوس ./.   
28/02/2020
تأليف
نزار الديماسي
أقدم هذه المحاولة للمساعدة في تقديم دروس للدعم عن طريق الأنترنيت إذا تجاوزنا الأزمة الصحية وعاد تلاميذنا واحتاجوا إلى اتمام برنامج العربية
خدمة لهذا الغرض أساهم بدروس من المحورين الأخيرين.
والله ولي التوفيق
          
نتجنب في التمهيد المقدمات الجاهزة ونركز على موضوع له صلة بالنص الذي تحلل.
















عن عمد أضع إعلان التخطيط على غير الصيغة الاستفهامية المتكررة لأوضح أن الصيغة المثبتة ممكنة بل لعلها تقطع مع الرتابة ومع النمط


نؤكد أن الوحدات المعنوية تنتمي إلى الجوهر لا إلى المقدمة كما يذهب البعض وذلك لأننا مع التقسيم والإشارة إلى مواقع من النص نكون قد بدأنا فعلا التحليل...
























































1 مثل المسرحي الإيطالي ت 1936
والمسرحي الألماني توفي 1956
وأستاذه المسرحي الفرنسي ت 1982
يمكن الاستعانة لتوضيح ذلك بما ورد في الفقرة الأخيرة الصفحة: 257 من الكتاب المدرسي الجزء الثاني. بداتها:" عندما أقول إن هذه المسرحية ليست إلا مشروعا للعمل ...






























































2 من بداية مدخل إلى المسرحية: هوامش للعرض والإخراج




























































نلاحظ رسم الميم في الاستفهام لا تكون ذات ألف ممدودة: لم ، فيم ، علام ...




































































3 ما عرفت بحرب حزيران:شنتها إسرائيل على دول الطوق العربي يوم 5 جوان وانتهت يوم 10 من نفس الشهر. لذلك فهي حرب الأيام الست ما زاد في خزي العرب. وأصبحت تعرف عندهم  بالنكسة.





















































4 – لكن في تلك الحكايات من يوجه الحكاية يوجهها إلى الملوك لا إلى عامة الناس