تحليل النص الأول: السنة الرابعة آداب
في انتظار العم مؤنس
العناوين
|
التحليل
|
الملاحظات
|
المقدمة
التمهيد
تقديم الكاتب
الموضوع
مراكز الاهتمام: التذكير
أنها لا تعيد تركيب الأسئلة المصاحبة بل
هي طريقة في توضيح أسلوب التعامل مع منهجية التحليل
الجوهر
الوحدات المعنوية: يقع
التقيدبها في تحديد عناصر التحليل
تحليل الوحدة الأولى:
الصورة
العامة للمقهى ولشخصياتها
الإشارات الركحية
التمييز بين المرئي والمسموع
اإشارات الركحية المساعدة على
الإخراج
الشخصيات
الشواغل اليومية
مسرح التسييس
لغة الخطاب
تحليل الوحدة الثانية: السؤال
عن قدوم العم مؤنس
علاقة الإشارة الركخية ببداية
المسرحية
صورة العم مؤنس مما يقدم في حوار
الزبائن الجماعي
لغة الخطاب
الشخصيات
تحليل الوحدة الثالثة:
حضور العم مؤنس وعدم استجابته لسرد الحكاية التي يطلبها السامعون
العلاقات بين الشخصيانت
الإشارة الركحية
التدرج في الحوار
الاختلاف بين نظرة العامة ونظرة
المثقف للتاريخ
التقويم
التأليف
الخاتمة
الإجمال
الموقف
الأفق
|
اعتدنا عند العروض
المسرحية حضور صورة واحدة لشكل الفضاء الذي يقوم على التقابل بين مساحة الأدوار التمثيلية (الركح)، ومساحة المشاهدة (الجمهور)
خلافا لما عليه الصورة التي يصطنعها لتوزيع العلاقة بين الممثل والمشاهد الكاتبُ
المسرحيُ السوريُّ المعروف بميله إلى التجريب والتغيير في نصوصه المسرحية سعد
الله ونوس. وذلك في بداية مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" المضمنة في
الأعمال الكاملة للمؤلف التي يقتطف من بين صفحاتها السادسة والثلاثين والتاسعة
والثلاثين بعد المائتين نصُّنا تحت عنوان"في انتظار العم مؤنس" حيث
يقع التعرض إلى الاهتمامات التي تشغل زبائن المقهى في انتظارهم لقدوم العم مؤنس،وإلى
ما يخيب أفق انتظارهم منه عند قدومه وإملاء اختياره عليهم.
وهكذا فإننا سنركز
الاهتمام في تحليلنا للنص على ما يجمع الزبائن في المقهى وعلى ما يشغلهم، وعلى
مظاهر التغريب التي تتضح من الإشارات الركحية خاصة وعلى ثنائية الطلب وخيبة
الأمل في الحوار الدائر بين الزبائن والعم مؤنس الحكواتي.
ينقسم نص "في
انتظار العم مؤنس" حسب شواغل الشخصيات في الحوار إلى ثلاث وحدات:
أولاها تنتهي عند
السطر الثلاثين نجد فيها صورة عامة للمقهى ينشغل فيها حرفاؤها بما يعنيهم في
حياتهم اليومية. وفي الوحدة الثانية الممتدة إلى السطر السادس والأربعين يتحول
اهتمام الحاضرين بالسؤال عن قدوم العم مؤنس قبل قدومه. وفي باقي النص الوحدة
الثالثة، يحضر العم مؤنس ولكنه لا يستجيب لرغبة المشغولين بحكايته الجديدة ويفرض
عليهم ما يختاره.
ينطلق النص وهو نفسه
بداية المسرحية بإشارة ركحية مطولة ذات أحد عشر سطرا، تتوزع على أربع فقرات. تطغى فيها الجمل الإسمية بما يتناسق مع
البدايات التي يتولى فيها الراوي تقديم المكان ومؤثثاته وشخصياته ومميزاته ... فيستعمل
لمثل ذلك الإشارات الركحية الوصفية.
تحمل البداية تعريفا
للمكان وهو مقهى شعبي تتكاثف فيه بعض الصور منها المرئي: كتبعثر المقاعد بين
الأرجاء وانتشار الزبائن انتشارا صنع فوضى وسمها الكاتب بالشعبية بسبب تناولهم
الشاي والنرجيلة وحركة الخادم بينهم ... فيولد ذلك تعددا للحركة وسط مكان محدود
من حيث مساحته، وهو ما لابد أن يؤثر في الجانب الثاني من الصور وهو المسموع الذي
يتمثل في صوت قرقرة النرجيلة وضجة الكلام والأغاني تنبعث من راديو عتيق ...
إن في الجمع بين
الصور المرئية والمسموعة المختلطة في مقهى شعبي يستقبل أصحابه البسطاء يحيل على
فئتهم الشعبية ويوحي بوضعهم الهامشي. ولعل ذلك ما سيعمل الراوي على تثبيته من
التوصيات التي تقصد الإخراج وترد في جزء من الإشارات الركحية الوصفية لإرشاد.
واضح من بعض
الإرشادات التي تقطع الجمل الوصفية أن الكاتب يريد تنفيذ تصور ما يرتئيه ولا
يقبل من التمثيل الركحي أن يحيد عنه فهو يختار للخادم أن يبقى مستمر الحركة على
امتداد السهرة رغم وجوده على مساحة العرض لا في مساحة الفرجة،وكذلك في برنامج
المؤلف لا توجد حدود للأغاني ولعددها ولامتدادها ولعناوينها ولمن يؤديها ،هي مفتوحة
على الممكن حسب شرط التآلف الذي يتحقق عند الجمهور: لا تبدأ المسرحية إلا
باسترخاء المشاهدين وإحساسهم بالطرب من جهة أو "حسب تقدير العاملين في
المسرحية" من جهة أخرى.
وهنا فلأننا قلنا إن
الكاتب يسعى إلى أن يحافظ على تصور يحمله للمسرحية فيجب أن نتبين أبعاد الإشارات
التي شذت عن المألوف المسرحي وألقت أمامنا حضورا للركح وللمشاهدة لم نعهدهما في
المسرح الأرسطي التقليدي، ولسنا بهذا القول نكتشف جديدا بل إننا ندركه بحكم أننا
على معرفة بالكاتب سعد الله ونوس ذي التوجهات التغريبية التي تأخذ من مسرحيين
تأثر بهم في الغرب1 حيث أنه في هذا المسرح يفك كل أنواع العزل بين
المتفرج والممثل وينزع عنه الجدار الرابع الستار الفاصل بين مساحة العرض وقاعة
الفرجة وذلك ما يظهر في البداية حين يقول:"نحن في مقهى شعبي، ثمة عدد من
الزبائن يتفرقون ..." يستعمل ضمير المخاطب نحن ليصير الإدماج بين المؤلف
والجمهور وزبائن المقهى (وهم من شخصيات المسرحية) في مكان واحد هو نفسه المخصص
للعرض وللمشاهدة. ولذلك فإن خادم المقهى بدوره لن يكف عن الحركة وعن الذهاب وعن
المجيء وكأنه يضطلع بدورين: أحدهما داخل المسرحية بصفته خادم المقهى وآخر خارج
المسرحية يماثل دور ساعي المشربة التي عادة ما تكون في المسارح.
اعتمادا على ما
ذكرنا من خاصيات البداية المسرحية غير المعتمدة على ما يحدد وقتها ومن مظاهر
التغريب ننتظر أننا لن نكون مع أدوار عادية للشخصيات ولعلاقاتها وللغة خطابها
ولشواغلها ... فكيف سيتم تقديم الشخصيات المذكورة في الإشارة الركحية التي
ذكرنا؟
تغيب في هذه البداية
الإشارات الركحية التي تعودنا أن تقدم الشخصيات وتعرفنا بها على مختلف مستوياتها
المادية والمعنوية، حتى عند حوارها لا تعين بأسمائها بل لا تذكر إلا بأرقامها
زبون 1 وزبون 2 ... وكأن هؤلاء ما هم إلا رقم من الأرقام تعود أن لا يوصف به إلا
الذين يعيشون على الهامش وتنفرهم الحياة أو ينفرهم المجتمع فيفتقدون إلى القيمة
والفعل ليس لديهم اهتمامات ذات بال يولون إليها وجوههم ويستغرقون فيها أذهانهم.
لذلك تراهم في مفتتح المسرحية جلسا لا طلب لهم ولا غاية إلا ما يستهلكون لشرب
الشاي وتدخين النرجيلة (رمزي الطبقات الشعبية الكادحة) :"زبون 1 : فنجان
شاي ثقيل ونارة" حتى إذا ما
تحدثوا وأثاروا موضوعا فإن موضوعهم لن يخلو من الشكوى، نأخذ المثال على ذلك
الحوار بين الزبون الأول والزبون الثاني، فنتبين كيف استحال السؤال عن الصديق
المشترك "أبو إبراهيم" وتبليغ سلامه إلى مناسبة للفضفضة وتذكر الهموم:
"زبون 3
الله يساعده ويساعدنا. ومن منا خال من الهم؟
زبون 2 في هذه
الأيام .. والله لا أحد."
نلاحظ في هذا المثال
أن التعرض إلى هموم "أبو إبراهيم" وهموم الجميع قد وردت عامة تشبه ما
لاحظناه حول عدم ذكر أسماء الزبائن فنستنتج من ذلك أن الارتباط بين الشخصيات
وهمومها وثيق الصلة بواقع الطبقة التي يسلط عليه الضوء الكاتب سعد الله ونوس وهي
التي لو ترك الحديث عنها بالصورة التي نقدمها فإنها لن تعي نفسها ولن تقف أمام
مرآتها وترى ضعفها وهوانها وسخف حياتها. نلمس هذا الأمر في العلاقة بين الزبون
الأول والخادم المبنية على طلب الشاي والنارة ونلاحظ أن النقاش يثار بينهما
ولكنه يتناول درجة خفة الشاي أو ثقله. هل ذلك هو حال الأعيان والمترفين
البرجوازيين؟ هل إذا التقوا حول الشاي جعلوه كبير همهم؟الجواب طبعا :لا، إنهم
إذا ما التقوا جعلوا الشاي بينهم شاي عمل أي: للكسب والتقدم.
الشخصيات وما عبرت
عنه من همومها وشواغلها نراها تمثل اتجاه المسرحية يقصد إليه سعد الله ونوس،
فيريدها فضاء "تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته"2
يتجه الكاتب إلى أن يوقظ في المشاهد
نشاطه الفكري وأن يكسر بذلك جدار الصمت عنده. إنه بذلك يضعه أمام أمر ما يهمه
ويعيشه في ظل ما يعرفه الكاتب بمسرح التسييس، لن يتخلى عما يمكن أن يصطنعه في
سبيل أن يخدمه في ذلك، حتى لغة الخطاب بين زبائن المقهى.
نرى أن الكاتب أراد من لغة الحوار في الوحدة
الأولى بما أننا أمام البداية، أن يعمق تجربة تشديد الصلة بين المشاهد ومن
يتابعه: إذا ما سمع الأصوات فكأنه يستمع إلى صوته في المقهى تقول الشخصية ما
يقول وتسمي الأشياء بالأسماء التي يسميها"يا أبو محمد" بدلا عن يا أبا
محمد و"شفت" بدلا عن التقيت ... وكذلك في وصف الشاي "تقيل"
بدلا عن ثقيل...
إذن إدخال العامية
على الخطاب في الحوار الموجه إلى الخادم خاصة يوثق الصلة بين الشخصيات وواقعها
الذي تنسلخ عنه لو وقع اعتماد عبارات من درجة مغايرة مثل: التقيت اليوم أبا
إبراهيم وإنه ليقرئك السلام، عندها سيحدث لدينا انطباع ينسف كليا اختيار سعد
الله ونوس لمسرح التسييس ومسرح التغريب الذي يتدرج إليه بإقحام شخصية العم مؤنس
لتقديم الحكاية من أجل إخراج الحاضرين من الجو الكئيب والرتيب.فهل يكون ذلك مبرر
انتظار الزبائن للحكواتي؟
العم مؤنس بطل
الوحدة الثانية بالغياب، نبدأ بالتعرف عليه مع تناول الآخرين له، وندرك مع
السؤال عنه من قبل الزبون الرابع أن بداية المسرحية ظهرت شروطها وذلك في الإشارة
الركحية التي تسبق سؤال الزبون الرابع في السطر الواحد والثلاثين تذكيرا بما ورد
في الإشارة الركحية المطولة: كون البداية قد تتأخر مادام الحاضرون لم يشعروا
بالطرب لاستماع الأغاني خلاف الوصف في الإشارة التي نذكر:"تسود ضجة
الأغنية فترة،يبدو فيها الحاضرون،وكأنهم يصغون باستمتاع..." ساعدتنا
هذه الحالة من المستمعين على تغيير مجال الاهتمام أصبحنا نفكر في الخروج من
الأجواء التي تسود المقهى وقد لا يكفينا الغناء وحده بعد إتمام وظيفته في
الإمتاع: إذن ينتاب الجميع شعورٌ بالحاجة إلى ما يشدنا إلى البقاء في نفس المكان
الذي ينبغي أن يستمر جاذبا لا منفرا. فمن سيكون صاحب الدور في هذه الحالة؟
لئن
كان الحوار في الوحدة الأولى ثنائيا تعلو فيه الأصوات من جهة ليلتبس بالجماعي
كما في طلبات الزبائن من الخادم وفي تلبيته مطالبهم أو تخف فيه الأصوات من جهة
أخرى كما في حوار الزبون 2 مع الزبون 3 فإن الحوار في الوحدة الثانية لن يكون
إلا جماعيا، إذا أرسل فيه المتحدث خطابا تلقاه الجميع وأجاب عنه بعضهم أو أحدهم.
هذا المشهد الجماعي يعطينا فكرة عن موضوع
الحوار الأوحد وعن مكانته بين رواد المقهى. فمم استمد الرجل هذه المكانة التي يكتسبها
وتتضح من الحوار الجماعي بين الزبائن ومن إجماعهم حول حول انتظاره بحكم حاجتهم
إلى قدومه؟
لم يعد الخطاب في
الوحدة الثانية عاميا يوميا كما كان في الوحدة الأولى بل بل أصبح وظيفيا فتولت
اللغة دور المساعدة على اكتشاف ما سيرد في تنامي أحداث المسرحية، لأننا بالسؤال
عن قصة تأخر العم مؤنس من الزبون 4 ومن الاستفهام الدال على التضجر من تأخر العم
مؤنس في كلام الزبون 5:"ألن يأتي العم مؤنس اليوم" وفي مقابل
ذلك نجد الجمل المثبتة التي تأتي على لسان الخادم وعلى لسان الزبون 1 كلها تلتقي
حول إثبات إتيانه في نفس موعده إلى المقهى، وتستند في ذلك إلى حجج متنوعة: منها
ما يركز على صفات الشخصية عند تشبيهه بالساعة كونه ملتزما لا يتخلف عن مواعيده.
وإلى جانب ذلك نجد الحجة التي تستند على التجربة:" زبون 1 : لم يتخلف
يوما منذ عرفناه."فيصبح ذلك بمثابة الحكم القاطع الذي يعتمد على ما
تعود العم مؤنس. ومن غلب الإحساس وتيقن "لا ريب أن العم مؤنس سيأتي"
وهكذا يغلب اليقينُ
السؤالَ والخيرةَ ويتطور الخوار ليتجاوز تأخر العم مؤنس فيتناول الحديث عما
ينتظر منه بعد قدومه: أنه سيبدأ سرد حكاية جديدة.
يتضح من التعرض إلى
لغة الخطاب المسرحي أنها تتغير بحسب تكييفها في المسرحية فإذا كانت تخدم جانب
التسييس الذي يريده الكاتب فإنها تقترب إلى المستخدم اليومي لتكون أقرب إلى ما
يعيه المشاهد. بينما هذه اللغة إذا استعملت للمساعدة على أداء دور في الإضافة
للمسرحية من جانبها الفني تغلب عليها الفصحى تنير السبيل أمام ما سيأتي من أحداث
وتستخرج ما في باطن الشخصيات لا نستدل عليه إلا بما تلفظه.
ذكرنا أن الشخصيات
الواردة في بداية المسرحية قد لا تبدو إلا أرقاما لا تعرف إلا بانتمائها الطبقي
وننتظر متى تتناول موضوعا مخصوصا حتى نكون حولها حتى صورة جزئية، نراها في هذه
البداية تنحصر في مستواها النفسي، وقد يشغلنا في هذا الإطار الزبونين: الثاني
والثالث كلاهما يبدو أقرب إلى الآخر ويظهران أنهما يشتركان في المواقف.
اختلفا عن كل
الحاضرين في الوحدة الأولى بالشكوى من قسوة الحياة، ويختلفان كذلك في الوحدة
الثانية ظرفيا عندما يستثار الحديث عن انتظار العم مؤنس فيعبران عن موقفهما من
الحياة وكأنهما يطلبان الموت ولا يجدانه:
" زبون 3 :
والله نعيش من قلة الموت.
زبون 2 : ماذا نفعل؟ الأمر بيد الله والمهم
سترة الآخرة."
ولا يختلف تدخلهما عندما
يشاركان الجميع في حديثهم عن حكايات العم مؤنس فيتحدثان عن النهاية القاتمة وعن
عدم وجود ما يفرح في الحكايات "من زمان".
نفسية كلتا
الشخصيتين تعكس حال من لا يرى في الوجود شيئا جميلا يبلغ به اليأس مداه وأقصىاه
ويستدعي من حوله الهموم والأحزان التي تحملتها كل النفوس المهزومة في زمن تأليف
المسرحية سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف بعد سنة من الهزيمة العربية في الحرب ضد
إسرائيل3 لما استفاق العرب على واقعهم المرير أنهم فاقدون للكرامة
على المستوى الفردي ويضاف إليهم فقدانها على المستوى الجماعي. فكيف لهم أن
يقفزوا عن هذا الواقع؟ وأين يرون خلاصهم؟ هل بالاستماع إلى القصص تكون نجاتهم؟
لعل في التفاف
الزبائن وفي ثورتهم العاطفية وهم يتوقعون قدوم العم مؤنس وبدايته لحكايته
الجديدة محاولة لنسيان الواقع الأليم وهروبا منه للبحث عن الجديد المخلص لهم.
فهل يجدونه في العم مؤنس أو في حكاياته؟
لاشك أننا تعرفنا
على العم مؤنس في الوحدة الثانية من الحوار المتبادل بين الشخصيات عنه، وكونا
صورة حوله أنه شخص ملتزم في مواعيده لا يتخلف عنها مطلوب عند الجميع لأنه يسليهم
بحكاياته رغم أنها لم تعد تفرح السامع "من زمان". ومع هذا الأمر لعلنا
لم نكن لننتظر أن يلقى الزائر من شخصيات المقهى كل تلك الحفاوة وذلك الاستقبال
وكأنه الشخصية المرموقة يسمعون عنها ويأتيهم للمرة الأولى. يظهر أنه وافد مبجل
فيكلف الخادم نفسه استقباله من طرف المقهى بعد أن يخبر من في الداخل أنه قد جاء،
ويردد الجميع عبارات الترحاب والسلام عليه بل وينشدون كلهم:" جاء العم مؤنس" والملفت أكثر من ذلك قولهم:" بان القمر".
مشهد الاحتفال هذا
لا يقابله إلا استقبال كبار الشخصيات، وذوي المقامات وقد يذهب إلى ظننا ما في
نفس المشهد من تلاق بينه وبين استقبال أهل يثرب للرسول (ص ل ) مهاجرا إليهم من
مكة.ولسنا في ذلك نبالغ خاصة ونحن نقارن بين " بان القمر "
و"أقبل البدر علينا" نجد نفس الاستعارة في موقفين يقتربان من حيث
المناسبة مناسبة الاستقبال والاستبشار بالقادم على المجموعة لأنه يحمل لها أملا
في الخلاص من الواقع المتردي والعالم المنهار. ولا نريد أن ننساق أكثر مع هذا
التشبيه عندما نستعيد الإشارة الركحية التي تصف حركة العم مؤنس البطيئة: " يتقدم
بحركة بطيئة، حاملا بيده كتابا سميكا وعتيقا"
إن العم مؤنس
بالنسبة إلى المجموعة كأنه قائدها بصفته الشخص الفرد في مقابل المجموعة
وباعتباره حامل المعرفة التي تخفى عنهم.ولأنه متى نطق وجب على الجميع أن ينصتوا
له ويقطعوا الأصوات وإن أطربت:
" زبون 5
أقفل الراديو مادا
إذن العلاقة بين
المجموعة : زبائن المقهى ، والفرد: الحكواتي كما تبدو من البداية تؤسس لعلاقة عمودية
طالما لاحظناها في المناسبات التي ارتبطت فيها الشخصيات على أساس سرد الحكايات
بين شهرزاد وشهريار وكذلك بين بيدبا الحكيم ودبشليم الملك4 . هذا في
ما يربط بين الطرفين فماذا في شخصية الحكواتي من صفات ذاتية تجعل منه الشخصية
الفاعلة؟
إن الحكواتي وحده من
بين الشخصيات من يتم تعيينه وتعريفه فهو محل تقدير الجميع باستعمال لفظ العم عند ندائه والتعرض إليه حتى
الزبون الرابع نجده في موضع من النص قد نزع عنه اللقب ولكنه عاد وذكره. وهو من
بينهم الوحيد من يحمل اسما لا رقما ولا كنية كالخادم: ورد اسمه مشتقا على وزن
اسم الفاعل من الأنس. فاسمه يتطابق مع نفس الدور الذي يؤديه تجاه المجموعة عند
زيارته لهم في كل يوم. وكذلك الحكواتي وحده من بين الشخصيات في البداية من تخصص
له إشارة ركحية للتعريف به ولتقديمه.
امتدت الإشارة
الركحية الوصفية المتعلقة بشخصية الحكواتي على فقرة. ورغم طول التقديم لشخصيتنا
فإننا لا نطمئن أن الوصف قد أتى على كل أوصافها: اكتفى الراوي هنا بالجانب
الظاهر منها ولم يتناول أي جزء باطن فيها.
يتخذ الراوي في
الإشارة المذكورة درجة الرؤية مع لا يعلم عن الشخصية إلا ما ينبغي أن يعلمه عنها
المشاهد نفسه فلا يتعدى إلى العلم بالأسرار والخفايا، ويتأكد هذا القول بنوع
اعبارات المستعملة من قبيل " حتى ليحس المرء ..." أو " توحيان
" أو " أهم ما نلحظه.." جميعها لا تقدم انطباعا أن الراوي يتميز
بالعلم الإلهي أو من درجة أعلى بل هو ذاته يقف على الحياد ولا يغوص في مستوى
الشخصية حتى لا يقدم لنا عنها ما يمكن أن يوجه القراءة نحو قراءة الكاتب ،
والحال أننا عرفنا اتجاه سعد الله ونوس أنه يريد من الجمهور أن يصل إلى درجة
الوعي بنفسه وأن يقاد إلى الفعل من داخل المسرحية ويكسر جدار الصمت ويرتجل
أقواله ... فلذلك يصطنع الكاتب مختلف الوسائل الفنية لتغلب تلك الغاية وفي
حالتنا هذه فإن الحياد يساهم في التخلي عن دور الإيهام الغالب في المسرح
التقليدي ويحقق دور المسرح التغريبي والتسييسي الذين ذكرنا معا. وهكذا قد تكون
شخصية الحكواتي التي يتنازل لها الكاتب عن دور الرواية في الحكاية المضمنة التي
ستظهر فيتحول كلاهما ممثلا للآخر يروي ما سيروي ولا يتدخل بالانفعالات والأفكار
حتى يترك للسامعين أن يقولوا ما رأوا قوله لا ما يراه الآخرون. لكن ألا يختلف
هذا القول مع مخالفة العم مؤنس للراغبين في الاستماع إليهم وهو يرفض أن يستجيب
لهم من أجل سرد سيرة الظاهر بيبرس؟
إن تخلي الكاتب عن دور الراوي العليم، جعل
القراء على نفس الدرجة مع الزبائن لا نعلم أي معلومة عن المستقبل. وذلك لأن من
يروي يتعمد الإخفاء ولا يعلن عن برنامجه فيخدم بذلك التشويق ويشد المتلقي على
خلاف اتجاه التغريب الذي يتعمد التشويش على عملية التلقي كما هو الشأن في هذا
النص مع الحركة الدائمة لخادم المقهى.
ننتظر في إطار
الشراكة التي تتواصل بين العرض والمشاهدة أن لا يهمش الكاتب أو المخرج حق
المتفرج في الاختيار وأن يجمع القصة
المروية إلى الفراغات التي تُركت مثلها مثل الأغاني المنبعثة من الراديو القديم
ومثل وقت البداية ... لكن الحوار في سيرورته يقلب الميزان ويكشف عن مجال يترك
للراوي حتى يتحكم في تناوله أرضيه المشاهدون أم لم يرضوه.
نلاحظ أن الحوار
تطور وغير من صورة العلاقة بين العم مؤنس والزبائن : فقد حول هذه العلاقة من
الاتصال إلى الانفصال وذلك لأن العوامل الممهدة إليه كانت موجودة من البداية.
أهم هذه العوامل للاختلاف بين الشخصيات : فإذا كان العم مؤنس صاحب الحياد البارد
الظاهر على وجهه ويملك نظرة إلى التاريخ كما سيظهر من بعد فإن الشخصيات الأخرى
تعتبر التاريخ وسيلة تسلية: " السهرات مضجرة لولا رواياتك." "
لولا العم مؤنس ما كنا نعرف كيف نقضي السهرة." ويغلب على سلوكها
الانفعال والانطباع ظهر ذلك في التمجيد لأيام الظاهر بيبرس من الزبونين الذين
كشفنا مللهما سابقا من الحياة وهما الثاني والثالث ثم يغلب الخطاب الانطباعي عند
طغيان موجة الرفض والتهجم على القائد بوصفه يرفض طلباتهم ويخيب أملهم من زمان "
منذ نهاية الصيف الماضي" ومع هذا فإن صوت الفرد يغلب ليحصل للجماهير عادة
أن تصيح وتنشر جلبتها ولمنها في النهاية تقبل بأمر الفرد وتنصاع له.
هل تلك هي تدخلات
الجمهور التي يصطنع سعد الله ونوس شكلا من أشكالها في المشهد الذي يقدم في
الخلاف بين الحكواتي والمتقبلين له ويقصد أن تتولد في المواقف المسرحية التي
يغلب عليها الأصوات المرتجلة؟ وهل هي مباحة إلى النهاية لا أحد يصدها؟
إن الذي وضع حدا
للأصوات هو الرد الهادئ من العم مؤنس رغم الضجة بعده :" ما جاء دور
الظاهر بعد." أقفلت هذه العبارة جميع ما جاء على لسان المتدخلين وخاصة
الأكثر تشاؤما من بينهم ( زبون 2 مع زبون 3 ) بكل ما تحمله من مواقف للتاريخ لم
يفهموها هم بعد ويفهمها من ينتمي إلى الحقل الثقافي كالحكواتي يجر إليه الزبائن
ليتعاملوا مع التاريخ لا باعتباره وسيلة للتسلية وإنما بحكم أنه أداة لامتلاك
لحظة الوعي وأن الأحداث التاريخية ليست منقطعة عن بعضها بل هي تفاصيل تتركب من
بعضها حسب تركيب متسلسل وفق قوانينه الزمنية والمنطقية. لذلك فإن الأوان لا
يتناسب مع سرد سيرة الظاهر بيبرس حيث البطولات والأمجاد. إنه يتناسب مع القصة
التي اختارها العم مؤنس ويخفيها إلى حد الآن عنهم ولكننا نتدرج حسب الحوار
المتباين إلى التعرف على موضوع القصة الجديدة: فلن يكون إلا معبرا عن واقع
الهزيمة وعن الضعف والتردي...
لقد وجه سعد الله
ونوس منذ البداية باعتبار أن هذا النص يقع في منطلق المسرحية تقنيات الكتابة إلى
الإعلان عن مشروعه المسرحي التغريبي والتسييسي في إطار فك الارتباط مع الضواهر
المسرحية القديمة, ليصبح الجمهور متجاوزا لمشاركته بالحضور والتفاعل دونما أن
يمتلك دور المبادرة والفعل ، غير انه مع هذا السعي لم يوفق إلى القطع الكلي مع
الاتجاه النخبوي لأن الجمهور رغم إرادة افتكاك المبادرة ارتد واستسلم للإرادة
المختلفة .
تقدم النص بصورة
تتطابق مع قوانين البدايات حيث ينبغي أن يضع تجربة الكاتب في إطارها ويقدم
مشروعه ويعلن عن عناوينه التي نفهمها من الأشكال الفنية المختلفة الحاكمة في
بناء العمل المسرحي. هذه الأشكال الفنية تنبه إلى واقع ملموس تعيشه البلاد
العربية في زمن الهزيمة والتراخي وتطلب من المثقف أن ينشر بواسطة الفن الإحساس
بالواقع المتراجع، لينهض بوعيه ويدفعه إلى الفعل والتغيير بالانتماء إلى الثقافة
التي يعمل الكاتب على إرسائها في مرحلة التسييس. ولقد ظهر من النص أن الكاتب استجاب إلى مقتضيات
مسرح التسييس الذي يهدف إلى إشراك المشاهد لكنه مع تطور فعل الكتابة لم يتخل عن
عناصر التوجيه وفرض الحدث عليه ( المشاهد )
تدرج الخطاب المسرحي
بمختلف أشكاله الفنية ليحقق البدايات وليعلن عن مشروع مخالف في مسرح سعد الله
ونوس استند إلى تأسيسه على متغيرات الواقع الجديدة وأوكل مسؤولية فهمها وتفكيكها
إلى قدرة المثقفين على ذلك وكأن هناك استنقاصا لباقي الشرائح أنها عاجزة ولا
تملك الوسائل. فهل يملك المثقف الذي يتعامل مع واقعه ويفككه القدرة على تعبئة
الجماهير كما يفكر سعد الله ونوس ./.
28/02/2020
تأليف
نزار الديماسي
أقدم هذه المحاولة للمساعدة في تقديم دروس للدعم عن طريق الأنترنيت إذا تجاوزنا الأزمة الصحية وعاد تلاميذنا واحتاجوا إلى اتمام برنامج العربية
خدمة لهذا الغرض أساهم بدروس من المحورين الأخيرين.
والله ولي التوفيق
|
نتجنب في التمهيد
المقدمات الجاهزة ونركز على موضوع له صلة بالنص الذي تحلل.
عن عمد أضع إعلان
التخطيط على غير الصيغة الاستفهامية المتكررة لأوضح أن الصيغة المثبتة ممكنة بل
لعلها تقطع مع الرتابة ومع النمط
نؤكد أن الوحدات
المعنوية تنتمي إلى الجوهر لا إلى المقدمة كما يذهب البعض وذلك لأننا مع التقسيم
والإشارة إلى مواقع من النص نكون قد بدأنا فعلا التحليل...
1 مثل المسرحي
الإيطالي ت 1936
والمسرحي الألماني
توفي 1956
وأستاذه المسرحي
الفرنسي ت 1982
يمكن الاستعانة
لتوضيح ذلك بما ورد في الفقرة الأخيرة الصفحة: 257 من الكتاب المدرسي الجزء
الثاني. بداتها:" عندما أقول إن هذه المسرحية ليست إلا مشروعا للعمل ...
2 من بداية مدخل إلى
المسرحية: هوامش للعرض والإخراج
نلاحظ رسم الميم في
الاستفهام لا تكون ذات ألف ممدودة: لم ، فيم ، علام ...
3 ما عرفت بحرب
حزيران:شنتها إسرائيل على دول الطوق العربي يوم 5 جوان وانتهت يوم 10 من نفس
الشهر. لذلك فهي حرب الأيام الست ما زاد في خزي العرب. وأصبحت تعرف عندهم بالنكسة.
4 – لكن في تلك
الحكايات من يوجه الحكاية يوجهها إلى الملوك لا إلى عامة الناس
|