بديع الزمان الهمذاني - المقامة الحلوانية
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ: لَمَّا
قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ فِيمَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ، قُلْتُ
لِغُلامي: أَجِدُ شَعْرِي طَوِيلاً، وَقَدْ اتَّسَخَ بَدَنِي قَليلاً، فَاخْتَرْ
لَنَا حَمَّامَاً نَدْخُلهُ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ، وَلِيَكُنْ
الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ،
مُعْتَدِلَ المَاءِ، وَلْيِكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ، حَدِيدَ المُوسَى،
نَظيفَ الثِّيابِ، قَليلَ الفُضُولِ، فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً،
وَقالَ: قَدْ اخْتَرْتُهُ كَمَا رَسَمْتَ، فَأَخَذْنَا إِلَى الحَمَّامَ
السَّمْتَ، وَأَتَيْناهُ فَلَمْ نَرَ قَوّامَهُ، لَكِنِّي دَخَلْتُهُ وَدَخَلَ عَلى
أَثَرِي رَجُلٌ وَعَمَدَ إِلى قِطْعَةِ طِينٍ فَلطَّخَ بِها جَبِينِي، وَوَضَعَها
على رأَسِي، ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَل آخَرُ
فَجَعَلَ يَدْلِكُنِي دَلْكَاً يَكُدُّ العِظامَ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزَاً يَهُدُّ
الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيراً يَرُشُ البُزَاقَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى
رَأَسِي يَغْسِلْهُ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلهُ، وَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ
الأَوَّلُ فَحَيَّا أَخْدَعَ الثَّانِي بِمَضُمومَةٍ قَعْقَعَتْ أَنْيابَهُ،
وَقَالَ: يَا لُكَعُ مَا لَكَ وَلِهَذا الرَّأْسِ وَهُوَ لي؟ ثُمَّ عَطَفَ
الثَّاني عَلى الأَوَّلِ بِمَجْمُوعَةٍ هَتَكَتْ حِجَابَهُ، وَقالَ: بَلْ هَذَا
الرَّأْسُ حَقِّي وَمِلْكِي وَفِي يَدِي، ثُمَّ تَلاكَمَا حّتَّى عَيِيَا،
وَتَحَاكَمَا لِما بَقِيا، فَأَتَيا صَاحِبَ الحَمَّامِ، فَقَالَ الأَوَّلُ: أَنَا
صَاحِبُ هَذا الرَّأْسِ؛ لأَنِّي لَطَّخْتُ
جَبِينَهُ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ طِيَنهُ، وَقَالَ الثَّاني: بَلْ أَنَا مَالِكُهُ؛
لأَني دَلَكْتُ حَامِلَهُ، وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ، فَقَالَ الحَمَّامِيُّ:
ائْتُونِي بِصَاحِبِ الرَّأْسِ أَسْأَلهُ، أَلَكَ هذَا الرَّأْسُ أَمْ لَهُ،
فَأَتَيَانِي وَقَالا: لَنَا عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فَتَجَشَّمْ، فَقُمْتُ وَأَتَيْتُ، شِئْتُ أَمْ أَبَيْتُ، فَقَالَ
الحَمَّامِي: يَا رَجُلُ لاَ تَقُل غَيْرَ الصِّدْقِ، وَلا تَشْهَدْ بِغَيْرِ
الحَقِّ، وَقُلْ لِي: هذَا الرَّأْسُ لأيِّهِمَا، فَقُلْتُ: يَا عَافَاكَ اللهُ
هذَا رأْسِي، قَدْ صَحِبَنِي فِي الطَّرِيقِ، وَطَافَ مَعِي بِالْبَيْتِ
العَتِيقِ، وَمَا شَككْتُ أَنَّهُ لِي، فَقالَ لِي: اسْكُتْ يِا فُضُولِيُّ، ثُمَّ
مالَ إِلى أَحَدِ الخَصْمَيَنِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِلَى كَمْ هَذِهِ المُنافَسَةُ
مَعَ النَّاسِ، بِهذَا الرَّأْسِ؟ تَسَلَّ عَنْ قَلِيلِ خَطَرِهِ، إِلى لَعْنَةِ
اللهِ وَحَرِّ سَقَرِهِ، وَهَبْ أَنَّ هَذا الرَّأْسَ لَيْسَ، وَأَنَا لَمْ نَرَ
هذَا التَّيْسَ.
قَالَ عِيسَى
بْنُ هِشَامٍ: فَقُمْتَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلاً، وَلَبِسْتُ الثِّيابَ
وَجِلاً، وَانْسَلَلْتُ مِنْ الحَمَّامِ عَجِلاً، وَسَبَبْتُ الغُلاَمَ
بِالعَضِّ وَالمصِّ، وَدَقَقْتُهُ دَقَّ الجِصِّ، وَقُلْتْ لآخَرَ: اذْهَبْ
فَأْتِني بِحَجَّامٍ يَحُطُّ عَنِّي هَذا الثِّقَلَ، فَجَاءَني بِرَجُلِ لَطِيفِ
البِنْيَةِ، مَلِيحِ الحِلْيَةِ، في صُورَةِ الدُّمْيَةِ، فارْتَحْتُ إِلَيْهِ،
وَدَخَلَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عليْكَ، وَمِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ
قُمَّ، فَقَالَ: حَيَّاكَ اللهُ! مِنْ أَرْضِ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهَةِ وَبَلَدِ
السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ فِي شَهْرِ رَمضانَ جَامِعَها وَقَدْ
أُشْعِلَتْ فِيهِ المَصَابِيحُ، وَأُقِيَمتِ التَّرَاويحُ، فَمَا شَعَرْنا إِلاَّ
بِمَدِّ النِّيلِ، وَقَدْ أَتَى عَلَى تِلْكَ القَنَادِيلِ، لكِنْ صَنَعَ اللهُ
لِي بِخُفِّ قَدْ كُنْتُ لَبِسْتُهُ رطْباً فَلَمْ يَحْصُلْ طِرَازُهُ على
كُمِّهِ، وَعَادَ الصَّبيُّ إِلِى أُمِّهِ، بَعْدَ أَنْ صَلَّيْتُ العَتَمَةَ
واعْتَدَلَ الظِّلُّ، وَلَكِنْ كَيفَ كَانَ حَجُّكَ؟ هَلْ قَضَيْتَ منَاَسِكَهُ
كَما وَجَبَ، وَصَاحُوا العَجَبَ العَجَبَ؟ فَنَظَرْتُ إِلى المَنَارَةِ، وَمَا
أَهْوَنَ الحَرْبَ عَلى النَّظَّارَةِ، وَوجَدْتُ الهَرِيسَةَ عَلى حالِهَا،
وَعَلِمْتُ أَنَّ الأَمْرَ بِقَضَاءٍ ِمنَ اللهِ وَقَدرٍ، وَإِلَى مَتَى هَذَا
الضَّجَرُ؟ وَاليَوْمُ وَغَدُ، وَالسَّبْتُ وَالأَحَدُ، وَلا أَطِيلُ وَمَا هَذا
القَالَ وَالقِيلَ؟ وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ المُبَرِّدَ فِي
النَّحْوِ حَدِيدُ المُوسَى فَلاَ تَشْتَغِلْ بِقَوْلِ العَامَّةِ؛ فَلَوْ كَانَتْ
الاسْتِطاعَةُ قَبْلَ الفِعْلِ لَكُنْتُ قَدْ حَلَقْتُ رَأَسَكَ، فَهَلْ تَرَى
أَنْ نَبْتَدِئَ؟.
قَالَ عِيسَى
بْنُ هِشَامٍ: فَبَقَيْتُ مُتَحَيِّراً مِنْ بَيَانِهِ، فِي هَذَيَانِهِ،
وَخَشِيتُ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسَهُ، فَقُلْتُ: إِلى غَدٍ إِنْ شَاءَ اللهُ،
وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ حَضَرَ، فَقَالوا: هَذا رَجُلٌ مِنْ بِلادِ
الإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمْ يُوَافْقُهُ هَذا المَاءُ، فَغَلَبَتْ عَلْيِهِ
السَّوْدَاءُ، وَهُو طُولَ النَّهارِ يَهْذِي كَمَا تَرَى، وَوَرَاءَهُ فَضْلٌ
كَثِيرٌ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهِ، وَعَزَّ عَلَيَّ جُنُونُهُ، وَأَنْشأْتُ
أَقُولُ:
أَنَا أُعْطِي اللهَ
عَـهْـداً *** مُحكَماً في النَّذْرِ عَقْدَا
لا حَلَقْتُ الرَّأْسَ
مَا عِشْـ *** تُ وَلَوْ لاقَيْتُ جَـهْـدَا
للنفس
رغبة، و للجمال روعة. الأثر في القلوبِ ، و الهمسُ في الأسلوبِ . تهف الأحاسيس لما
هو بديعٌ ، و تخفّ ُ
لما هو ضليعٌ. لذلك جُعِلت العبارة، و استـُـغِلّتْ الإثارة
ُ. فكانت الإنارة. امتطى الكتابُ الهزْلَ، ورتـّبوا القول كبديع الزمان الهمذاني رائد
الكتابة في المقامات طوّع فنونه القصصية و اللغوية في "المقامة
الحلوانية" لنقل ما كان لعيسى بن هشام في طريق عودته من الحجّ من إهانةٍ تعرض
لها في الحمام و من انزعاج تسببت فيه ثرثرة الحجام. فانبنت المقامة ُ على مواقف متعددة جعلت منها إحدى
المقامات المركبة.
فما الدافعُ
إلى قصها منتقاة من زمن الحكاية؟ و ماهي المفارقات ُ المولدة للهزل من جهةٍ و
للنقد من جهةٍ أخرى؟ و أي مقاصد تناولها بديع الزمان الهمذاني من المواقف العديدة
للشخصية في الأماكن المختلفة؟
نظم الكاتبُ "المقامة
الحلوانية" على التحول في المكان و اللقاء مع نماذج مختلفة من الشخصيات،
نستخدمها معيارا للتقسيم: اولا في حلوان لما طلب البطلُ الراحة وشعر بحاجته إلى
الاغتسال و الحلاقة وثانيا في الحمام حيث يهان عيسى بن هشام من الرجلين و من صاحب
الحمام وثالثا حين يقرر الرجل عدم الحلاقة ما عاش بسبب ثرثرة الحجام.
ينقل الراوي
عيسى بن هشام في مجلسه قصته في حلوان :
إحدى مدن العراق اختارها كما يقول لنيل قسط من الراحة بعد جهد الحج و السفر إليه و
العودة منه. مما يحيل أننا أمام حكاية طويلةٍ استغرقت وقتا متواصلا ممتدا. غض عن
معظمها الطرف و لم يتوقف إلا في حادثةٍ واحدةٍ ذات فترةٍ زمنيةٍ محدودة تمضي على
طرفٍ قصيرٍ من اليومِ.
عندما ننظر
إلى زمن القصة نجد أنه جزء صغيرٌ من الحكاية أخذ قيمته من عناية الراوي به و
تخصيصه من بين كل المواقف و كل الحالات وكل القصص بالتركيز لنقله إلى السامعين . إذن مما تخضع إليه
الرواية ُ أو القصة ُ هو القيامُ على ظاهرة الانتقاء و الاختيار و هو ما يثبت أن
للقصة قيمة ً و أهمية ً و دعائمَ تؤهلها جميعا كي تثير الاهتمام و تجلب المتابعة و
يصغي السامعون لمن يتولى نقلها شفويا.
إن للطبيعة
الشفوية في المقامة أحكاما و سلطة ً ذلك أن القاصّ َ يفرض عليه السامعون حتى لا
يملوا منه أن يحسن الاختيار و يوفق في الكلام لغة ً و محتوًى و إلا عُدّ حديثـُـه
هراءً و ثرثرة و سقط من آذانهم و نفروا منه و انفضوا عنه. قد لا نشك أن "
المقامة الحلوانية َ " استجابت لنفس الشروط المطابقة لحكم الشفوية و أرضت
آفاق انتظار السامعين و شدتهم إليها بمكتسباتها و مميزاتها و طرافتها و موافقتها
للحدود و القوانين المطلوبة في المجالس و المقامات. فأين تظهر جوانبُ الطرافةِ و الإثارة في
المقامة؟
لن نتبع في
تحليل المقامة الاعتماد على التحليل حسب الوحدات بل حسب المحاور وحسب النقاط
الموضوعةِ للاستفادة من القضايا المطروحةِ و لتناول الأفكار غير المشروحةِ وفق
معطيات مناسبةٍ و حدود مرسومةٍ.
لقد رأينا
أهم ظاهرةٍ في النص تحتاج الشرح و تقتضي التفصيل و تغلب التأويل هي ظاهرة ُ
المفارقات الناتجة عن تتالي الخيبات بعد صدور الرغبات. نعددها في ما يلي:
+ الرغبة في
تلقي نصيب الراحة في حلوان يؤدي إلى انتهاك حرمة الطالب و خيبته بعد التجارب و
المواقف التي تعرض إليها في الحمام ثم مع الحجام.
+ الرغبة في
الحفاظ على المظهر و على سلامة الشكل يفضي إلى عزم خالف ما في البداية برفض
الحلاقة مستقبلا.
+ عدم الرغبة
في الشهادة و وقوفه أمام صاحب الحمام مساءلا .
+ الرغبة في
الخروج من الحمام مكرما و محترما و خروجه منه غاضبا لائما معاقبا غلامه بالمص و
الضرب.
+ الرغبة في
الابتعاد عن الفئات الضعيفة و التعالي عنها أدى إلى التعدي عليه من المنتمين لها.
+ الرغبة في
التطهر و كسب الوقار نزع عنه أية قيمة و استحال إما إلى ليس أو إلى تيس.
+ الرغبة في تسيير
شؤونه بهدوء حمله إلى لقاءات صاخبةٍ.
+ المفارقة
بين انزعاج الراوي و استغرابه من فصاحة الحجام و بيانه رغم عدم رضاه به ثرثار
جُماعُ القول
في الثنائيات المستخرجة البانية للمقامة نذكر أن الهمذاني قد عمد إلى المقابلة بين
المنطلقات و الخواتيم من أجل إنشاء مواقف الهزل المنبعثة أساسا من التناظر و
التناقض الحاصل فيها فما قولنا في شيخ وقور يتحول موضوع صراع حاد بين رجلين
شديدين؟ و ما قولنا في ذاك الشيخ الوقور وهو يعاقب غلامه بنفس الطريقة التي نفر
منها في الخصومة بين المدلكين ؟ و ماذا نقول في حجام هو من عامة الناس يتحدث
ببلاغة العلماء و فصاحة العارفين و لكنه جاهل بالأماكن و خصائصها فيحسن شكلا و
يسيء مضمونا؟و كذلك ما حكمنا عندما نقيس بين ما تعرض له الشيخ من إهانات و خيبات
متلاحقة في حين انه رغب في كل مرحلة أن يحافظ على شكله و على صورته و على وقاره
وعلى مقامه؟ ما هي حاله وهو يأمر غلمانه و يطلب منهم حوائجه ثم يتعرض إلى مواقفه
تلك إما أمامهم و إما بعلمهم؟
إن كل هذه
الأسئلة المطروحة تعكس ما أصاب الراوي من مواقف تهينه و تلحق به السخرية و تجعل
منه لعبة في يد المؤلف القاصد إلى نقد نموذج سائد في ذاك العصر يهدد وحدة
المجتمعات العربية و لحمتها. وهو ما نسعى أن نوضحه في الفقرة التالية.
إن سلوك
الشيخ الغني الوقور العائد من الحج : "لَمَّا
قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ فِيمَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ، قُلْتُ
لِغُلامي " يعكس نموذجا ساد في عصر الكاتب و بدا يحيد عن قيم طالما حكمت
العلاقات بين العرب في الجاهلية و جاء الإسلام فدعمها وحرص على بلورتها هي قيم
التعاون و التكافل و التراحم و الأخوة و الكرم بمنح الغني للفقير نصيبا مما منّ
عليه الله وأنعم : " إنما المؤمنون إخوة " و " : المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته ومن فرج عن
مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ، ستره الله يوم
القيامة " .
كما نجد في الشعر الجاهلي أبياتا تمجد
الكرم القيمة الأبرز التي ينعكس فيها التلاقي بين الفقراء و الأثرياء يقول زهير بن
أبي سلمى في ثلاثة أبيات :
زهير بن أبي سلمى:
تــــراه إذا ما جــــئته متهلـــلا **** كأنك تعطيه
الذي أنت سائله
فلو لم يكن في كـــــفه غيـــر روحه **** لجاد بها
فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته **** فلجته المعروف والبحر
ساحله
نشأت بين
المسلمين المحبة و لم توجد تفرقة بين السيد و عبده و لا بين الغني و الفقير، حتى
كان الاتصال بين العرب والعجم بعد الفتوحات فانتشر ما بينهم من الخلافات و عادت
العصبية التي قضى عليها ظهور الإسلام فامتنع الناس عن مخالطة بعضهم البعض بسبب
تدهور الأوضاع الأمنية و انتشار جرائم قطع الطريق و اختلال التوازن بين الفئات
الإنسانية فأصبح الواحد يمتنع عن الآخر و يحترز من لقائه و يرتاب في نواياه و لا
يكترث لشانه. كأن العرب لم ينشأوا في ظل ثقافة الإحسان و حضارة التواضع و
السلم.كأنهم لم يطالعوا في حياتهم المودة و الرحمة فاستقل الأغنياء في أحياء تخصهم
ليتركوا البقية للفقراء لهم أسواقهم ، و لهم مآويهم ، و عندهم لباسهم و نظام
حياتهم المختلف على نظام الآخرين. لذلك نشهد عيسى بن هشام الرجل الغني صاحب المال
، و المحفوف بغلمانه يحرص على مظهره و يحافظ على مقامه الاجتماعي و لو بصورة مؤقتة
يقول بعد إقفاله من طريق الحج:" أَجِدُ
شَعْرِي طَوِيلاً، وَقَدْ اتَّسَخَ بَدَنِي قَليلاً، فَاخْتَرْ لَنَا حَمَّامَاً
نَدْخُلهُ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ، وَلِيَكُنْ الحَمَّامُ وَاسِعَ
الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ، مُعْتَدِلَ المَاءِ،
وَلْيِكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ، حَدِيدَ المُوسَى، نَظيفَ الثِّيابِ،
قَليلَ الفُضُولِ" نلاحظ كم عدد الراوي شروطه لاختيار الحمام و الحجام و كأنه
يحرص تجنب أمر مزعج لا يتلاءم وأسلوبه في الحياة و يحرص أن لا يخالط بشرا قد
يسيؤون إليه و لا يروقون له. ذلك ما نفهمه من إلحاحه على الغلام في مقاييس
المطلوب. لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن: إذ سعى الرجل إلى حفظ كرامته ورفع
مقامه فإذا به يسقط في مواقف مهينة تضع من حاله و تفقده كل كرامة صغر شأنه فأصبح
في خطاب الخصوم رجلا غير موجود أو شبيها بالتيس بل إن المتخاصمين قد نفيا وجوده
واعتبراه فاقدا للقيمة و حولاه إلى لعبة ذات قطع منفصلة يتنازعان رأسه و لا
يحتفلان به و لا يأبهان له أيرضى أم لا يرضى فهل بعد ذلك إهانة و انتقاص من شأنه؟
لا شك أن المواقف الحاصلة مثيرة للانتباه مولدة للسؤال معبرة عن رأي الكاتب في
قضية الأحداث المتوالية،قد نؤولها على بعدين: أولهما أنه يشرع للأغنياء أن يتجنبوا
الفقراء لأن لقاءهم لا يجلب لهم إلا المذلة و الهوان. أما ثانيهما فإن الكاتب ما
عرض الراوي إلى تلك المشاهد المذلة إلا لأجل أن يعاقبه نتيجة ما صدر منه من تعال و
من التزام بالشكل وعدم استفادة من الحج الذي تدل طقوس منه على احترام المسلم
للمسلم من غير نظر إلى مكانته و لا إلى حالته فهو يعاشره و يطوف و إياه بالبيت
العتيق، و يتحمل و إياه مشاق التحول من الحرم إلى جبل عرفات و البقاء من شروق
الشمس إلى مغربها عرضة إلى أشعة الشمس يحيط جسمه بثياب خفيفة غير مخيطة. فنجد أن عيسى
بن هشام قد جرب التعب و النصب في حجه و ننتظر أن يتغير سلوكه غير أن الوقائع تثبت
أنه ما أدى مناسك الحج إلا للعبادة في حين أنه مناسبة للتربية ولاكتساب السلوك القويم.
نلاحظ أنه لم يستفد و لم يغير شيئا بل حافظ على سيرته القديمة.
نستنتج من ذلك أن الكاتب يعاقب البطل نتيجة قسوته و نتيجة ترفعه و تكبره وهو
ما يتنافى مع طبيعة الحياة و العمران البشري. و يؤكد الكاتب من الأحداث المتلاحقة
أن من لا تغيره تربيته و لا عبادته و لا دينه فقد يصاب بتجارب و شدائد قاسية
فتضطره إلى التغيير و إلى التخلي عن العادات القديمة مثلما كان لعيسى بن هشام مع
الحجام حيث دفعته التجربة أن يقرر مباشرة
بعد خلاصه من أبي الفتح الإسكندري أن لا يعود ثانية إلى الحلاقة ما ظل حيا وهو من
لم ينتظر أن يعود إلى قم بلدته في بلاد فارس حتى يخفف من شعره و يتخلص من طوله.
لقد أثبت موقف عيسى بن هشام مع أبي الفتح الاسكندري أن الإنسان ينبغي أن لا
يقلل من شأن غيره مادام له خصال عديدة قد يتفوق في بعضها و قد يخفق في بعضها الآخر
كحال الحلاق أبدع في التعبير و لكنه اختلطت عليه المعلومات فلم يميز أن قم معقل
للشيعة و اعتبرها بلادا للسنة و كذلك خلط بين قم و القاهرة فنسب إلى الأولى ما
للثانية و أتى بعدها بكلام غير متناسق المعاني فأذهب عن السامعين الفهم و الوضوح و
دعا المتلقي إلى النفور منه و التخلص من سماعه.
بذلك ندرك أن الاسكندري قدمه الكاتب مثالا لفضل صاحب
العلم و البلاغة على من لا يكتسب منهما شيئا. نقيس على الفكرة الحجام الذي سعى
عيسى بن هشام أن يتخلص منه و لكنه لم يغادره رافضا و لا منكرا بل سأل عنه و استغرب
بيانه و فصاحته و رق له و السبب في ذلك حسن تعبيره يقول: " فَبَقَيْتُ مُتَحَيِّراً
مِنْ بَيَانِهِ، فِي هَذَيَانِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسَهُ، فَقُلْتُ:
إِلى غَدٍ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ حَضَرَ، فَقَالوا: هَذا
رَجُلٌ مِنْ بِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمْ يُوَافْقُهُ هَذا المَاءُ،
فَغَلَبَتْ عَلْيِهِ السَّوْدَاءُ، وَهُو طُولَ النَّهارِ يَهْذِي كَمَا تَرَى،
وَوَرَاءَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهِ، وَعَزَّ عَلَيَّ
جُنُونه." لهذا يبقى صاحب العلم و اللغة مقدما على سقط الناس لأنه يجلب
الاحترام في حين هم يتصفون بالفظاظة و بالشدة يتميز كما يتميز أبو الفتح الإسكندري
البليغ على المدلكين و على صاحب الحمام المتصفين جميعهم بالغلظة فتكون اللغة أهم وسيلة
تواصل بين المتخاطبين وهو لعله ما يفسر حرص بديع الزمان الهمذاني على العناية
بأسلوب الكتابة و طريقة الصياغة و التعبير.
لقد اعتنى الهمذاني بأساليب البديع و
استغلها لبناء مقامتها سردا و وصفا و تبليغا عند استعمال السجع .
فأما سردا فنلاحظه مع كل استعمال للسجع بواسطة الأفعال كما في الأمثلة التالية
: " فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً " أو" ثُمَّ عَمَدَ إِلى
رَأَسِي يَغْسِلْهُ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلهُ" أو " فَقُمْتَ مِنْ
ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلاً، وَلَبِسْتُ الثِّيابَ وَجِلاً، وَانْسَلَلْتُ مِنْ
الحَمَّامِ عَجِلاً " نلاحظ أن الراوي بالسجع قد استعمل الصيغ المعبرة عن
الحدث و عن الحركة بواسطة الأفعال و بواسطة الصفات المعبرة عن الحال في مثل مليا و
بطيا و مثل خجلا و وجلا و عجلا فكانت هذه الأحوال مع السجع صالحة ً عند الرواية
للتعبير عن سرعة الأحداث تتناسب مع طبيعة فن المقامة و مع مقتضيات الشفوية التي
تتعارض مع طول السرد و مع أسلوب الإطناب في الأحداث و الأفعال.
و اما وصفا فإن السجع يستخدم فيه المؤلف الجمل الاسمية مثل" وَلِيَكُنْ
الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ،
مُعْتَدِلَ المَاءِ" و مثل " بِرَجُلِ لَطِيفِ البِنْيَةِ، مَلِيحِ
الحِلْيَةِ، في صُورَةِ الدُّمْيَةِ " فنلاحظ أن السجع يخدم بسرعة انتقاله في
الوصف إلى تناول مواضع أكثر يهتم بها كالحمام بجمل قصيرة و بسطر واحد نقل لنا صورة
المكان المطلوب من حيث مساحته و ماؤه و هواؤه و نظافة أرضه. و كذلك بالنسبة إلى
الحجام بالجمل القصيرة تم وصفه من حيث قوامه و لباسه ووجهه.
و أما تبليغا فإن السجع بنغميته و موسيقاه يحدث عند قراءته إيقاعا فيجلب إليه
المتلقي سمعا أو قراءة و يدعوه إلى الفهم من أجل تبليغه القضايا و الآراء و هو أهم
ما يخدم فيه السجع الكاتب.
مما سبق ثبت لنا أن السجع ذو وظائف متنوعة يضطلع بما تؤديه أساليب التعبير
كلها في مستوى السرد و الوصف والحوار و مستوى التنغيم و الإيقاع. و لكنه يتميز
عنها بقصر جمله و اتجاهها مباشرة إلى المعنى فيتطابق مع مفهوم البلاغة بحيث يعبر
عن معان عديدة بحجم قليل من الألفاظ و الكلمات. إنه يؤدي وظائف جمالية في الخطاب
السردي تعضده في ذلك أدوات بديعية أخرى منها الطباق و أدوات لغوية منها المفعول
المطلق و التعليل نوضحها في ما يأتي.
استخدم الكاتب الطباق و المقابلة في أكثر من موضع حين قال: " خرج مليا و
عاد بطيا " و حين قال : " شئت أم أبيت" وحين قال :" خرج و دخل
" ليعكس من وراء الاستعمال هذا كثرة الحركة و اختلافها و تنوع الأحوال و
اختلافها غير أننا لا نرى أن نفس الأسلوب منتشر في المقامة بكثافة كما هو الحال مع
السجع لأن الإكثار منه قد يعد تكلفا و تصنعا و قد يذهب بقيمة التواصل المطلوبة في
الخطاب بين الراوي و المتلقين في المجلس و لهذا قد تحضر أساليب ثانية تغني التعبير
كالمفعول المطلق في الأمثلة التالية :" ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَل آخَرُ فَجَعَلَ
يَدْلِكُنِي دَلْكَاً يَكُدُّ العِظامَ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزَاً يَهُدُّ
الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيراً يَرُشُ البُزَاقَ" و " وَدَقَقْتُهُ
دَقَّ الجِصِّ " يَهْذِي كَمَا تَرَى " ما نلاحظه في الاستعمالات
للمفعول المطلق أنها وردت في مواطن العنف و الخروج عن العادة لأن علاقته بالتعبير
قد ترتبط في مقامتنا بالفكاهة و الإضحاك حيث أن التأكيد يعكس التضخيم وهو ما يلتقي
في الرسم بما نعرفه من الرسم الكاريكاتوري المستعمل للهزل و ذاته ما نلاحظه في
استخدام أحد المتخاصمين للتعليل في الحجاج بينه و بين خصمه فنرى حرصا على الإثبات
و على التبرير و على النزاع في حين أن الموضوع تافه لأيهما الرأس يقول:" أَنَا
صَاحِبُ هَذا الرَّأْسِ؛ لأَنِّي لَطَّخْتُ جَبِينَهُ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ
طِيَنهُ، وَقَالَ الثَّاني: بَلْ أَنَا مَالِكُهُ؛ لأَني دَلَكْتُ حَامِلَهُ،
وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ" نرى أن الأسلوب يساعد على الإضحاك و على الفكاهة
خاصة عند التضخيم و المبالغة أو حين المفارقة بين الحجة القوية و تفاهة الموضوع
يضاف إلى عبارات مستعملة و تشبيهات أو جناسات من نوع " يا لكع " و نوع
" هب أن هذا الرأس ليس و أننا لم نر هذا التيس" فيتضح أن الإضحاك في
المقامة مقصود إليه تستخدم لأجله ادوات عديدة ذات صلة باللغة كما هي ذات صلة
بالبنية الحكائية و الأحداث .
تعرضنا في تحليلنا للمقامة الحلوانية إلى النقد عند بديع الزمان الهمذاني بسبب
انقلاب القيم و اختلافها عن الماضي التابع للجاهلية و فجر الإسلام و حاول من
المقامة كشف العيوب الحاصلة في التخلي عن السلوك المبني على الإحسان و عن المودة
وكأنه يدعو إلى ضرورة المحافظة على أخلاق الإسلام و قيم العرب الموروثة. و توسط
لنقل ذلك أدوات لغوية وتعبيرية أحكم الكاتب صناعتها فكانت الأساليب البديعية سجعا
و جناسا و مقابلة و طباقا و المفعول المطلق و المفعول لأجله وسائل مساعدة على
اختصار القصة و تنوع أحداثها من جهة و مساعدة على تنويع مواطن الإضحاك و السخرية
من جهة أخرى فنعتقد ان المؤلف قد أبعد عن السامع الملل و الضجر و حرص على التزام
مقتضيات الشفوية و قوانينها فوردت المقامة رائقة الأسلوب بسيطة الأحداث غنية
بوسائل الإمتاع و الإفادة لكننا نلاحظ أن بعض
مقومات القص تضعف كعنصر التشويق و بناء العقدة
و تأثير الزمان و المكان في الأحداث إذ تبدو مقامتنا مقامة الشخصيات قبل التوظيف و قبل الاستثمار للمعطيات الفنية و
القصصية.
لم يرض الكاتب على شخصيته بعدما بدا منها عدم التزام بالأخلاق النبيلة و إخلال
بالقيم الموروثة فعاقبه بان عرضه إلى الإهانة و إلى المذلة و القهر من فئة تكبر
عليها و استخدم لذلك وسائل لغوية بديعية مساعدة في الالتزام ببعض فنون القصة
كالحوار و السرد و الوصف و الإضحاك فإلى أي مدى يتبع صاحب المقامات طرقه نفسها في
النقد الاجتماعي و الديني والثقافي ؟