الجمعة، 27 سبتمبر 2013


تحليل قصيدة: فتح عموريّة مدحا للمعتصم: نزار الديماسي
إن ذكر الشخصيات التاريخية وإنجازاتها شعرا  لا يعكس منحى الشاعر إلى التوثيق للأحداث كما هي وإنما هذا الشاعر يتلقفها كما كانت ليعيد إنتاجها ويصدرها إبداعا فنيا وفق رؤيته لا يسجل فيها ما مضى ولكنه يؤسس أو يرسخ قيما وانطباعات ومواقف[1] تضاف إلى الشخصية الرمزية يقول أبو تمام:
(ولولا خلال سنها الشعرُ ما درى :...: بغاة العلا من أين تؤتى المكارمُ)
أبو تمام صاحب القصيدة المدحية :  " فتح الفتوح " ذات الأربعة الواحد والسبعين بيتا ألفها بمناسبة الحدث الهام أو الإنجاز الكبير المتمثل في الانتقام من الروم وهزمهم وعقابهم بسبب ما صدر منهم من إهانات قصدوا بها شخص الخليفة نفسه ، وشرف العرب جميعهم بعد سبي الآلاف من النساء وقطع آذان الرجال وأنوفهم وسمل عيونهم وبعد إلحاق الدمار والهدم بمدن الثغور وزبطرة  مسقط رأس المعتصم وبلاد أهله لأمه. عكس أبو تمام هذا الحدث في قصيدته فسخر من المنجمين، وعظم النصر وأبرز آثاره على صاحبه وعلى العرب والإسلام في مقابل الإذلال اللاحق بالأعداء.
فما الدافع الذي قاد الشاعر وحمسه لينظم القصيدة؟ وما وراء سخريته من المنجمين من جهة ومقارنتهم بالفرسان من جهة أخرى؟ وكيف احتفل الشاعر بالنصر وبين آثاره على الخليفة وعلى الدين كله في مقابل آثار الهزيمة على الأعداء؟
  
تنقسم القصيدة إلى ثلاث وحدات نوزعها حسب أسلوب الخطاب فنجد في الأبيات الثلاث الأولى سيطرة الأسلوب الحكمي الذي يستغله للتهكم على المنجمين والاعتراف بقيمة الحروب أما الوحدة الثانية فيسيطر عليها الاستناد إلى الوقائع التاريخية ليهتم في ظل ذلك بتخليد الحدث المنجز وتمجيده وتبقى الوحدة الأخيرة ذات الأبيات الخمس المتبقية  يقع فيها التركيز على المعاني الدينية مرتبطة بضمير المخاطب أنت لإثبات إخلاص المعتصم لله وطاعته له.
 إن نظم القصيدة تابع إلى مناسبة تتميز في تاريخ الأمة عامة وفي سيرة الشخصية الإسلامية الأولى خاصة، لذلك فإنها تُسجلُ من بين الأحداث العظمى يخلدها التاريخ. مثل هذا الحدث التاريخي لابد من إحيائه والاحتفال به حسب صور لائقة أهمها تخصيصه بقصائد تنقل ما أحاط بالفتح من احدث ومن آثار.
فتحُ الفتوح تعالى أن يحيط به     نظمٌ من الشعرِ أو نثــْرٌ من الخطب.
غير أن الوظيفة هذه لا يصلح لها إلا من أهل لها من الشعراء من يشهد لهم بالأفضلية وبالأسبقيةِ.[2] أبو تمام في عصره كان ذاك الشاعر الذي ارتفع شأنه وعلا فاحتل مقامه في بلاط المعتصم وأصبح شاعره وبات مطالبا أن لا يفوت الفرصة دون أن يخصص لها قصيدة ترقى إلى مستوى الإنجاز ( الحدث التاريخي تليق به قصيدة تاريخية ) فكانت القصيدة التي نتولى تحليلها مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب    في حده الحدّ بين الجد و اللــعب
لكننا نجانب الصواب متى اعتبرنا أن أبا تمام قد ألف القصيدة استجابة لواجب الوظيفة باعتباره شاعر البلاط، وأهملنا أنه تأثر بالواقعة فعبر عنها بعفوية وبصدق شعور وهو من يـُعرف ُ بكونه مدافعا عن الانتماء إلى الجنس العربي. لذلك فكل نصر للعرب هو فخر له وانتشاء لنفسه. نتج عنه أن يلتفت للمناسبة بكل طاقاته وقدراته يؤلف نصا شعريا تغني براعته عن صرف النظر إلا إليه ، ويدفع التفوق في نظمه إلى عدم التمييز : أين الحدثُ؟ أهو في الفتح المتعالي عن كل ما سواه أم هو في القصيدة التي تفوق غيرها؟
لقد ألف أبو تمام قصيدة " فتح الفتوح " في غرض المدح. وجرت العادة أن يلتزم المادحُ ببنيةٍ محدودة ومواضيع مخصوصةٍ لا يخرج عنها في مقدمته. لكن شاعرنا نلاحظ من المطلع أنه قد قطع مع ذلك واتجه إلى التجديد في الاستهلال. إن ما يعين أبا تمام الخروج عن المنظومة السائدة في بناء القصيدة أن تجربته الشعرية ناضجة تسمح له الدخول في أي مغامرة وهو واثق من نفسه قادر على الصمود أمام جبهة المعارضة لا يهتز ولا يتأثرُ. فقد أصبح يملك مبادرته الفردية لا يخضع للقوانين وللقيود، ينبعث كلامه وفق رؤيته وخطته كما في قصيدتنا التي نحللها.
نلاحظ في نصنا أن الشاعر انطلق مباشرة في الغرض حيث استغنى عن مراحل المقدمة فلم نجد مطلعا طلليا ولا نسيبا ولا رحلة وإنما وجدنا إشارة واضحة للحدث منذ بدايته حين كان التردد بين المضي في الحرب استجابة لحماسة القتال من جهة وإرجاء أمرها استجابة لرأي المنجمين من جهة أخرى.
لاشك أن أبا تمام قد استغنى عن ذكر المقدمات المعروفة لأنه لم يرض أن يبدو لها موقع وسط ما سيذكره بل إنه يعتبرها ثانوية لا مقام لها بين حديث النصر وإحباط رأي المنجمين وتمثل المراحل التي مر بها المعتصم في فتح عمورية.
يبدو أن المعتصم قد أخذته الحمية وملكته الحماسة فلم يأبه لتخاريف العرافين ولم ير إلا نفسه وما ينبغي فعله فصمم على الثأر من الروم وألقى بكلام المنجمين جانبا ليتركهم فيما بعدُ عرضة للسخرية[3] . كسخرية ابي تمام منهم منذ المطلع فجعل من زلتهم هذه درسا يستثمره للاعتبار ويأخذه معيارا للحكم على بطلان هذا العلم نفسه: لقد ثبت بفعل الممارسة والواقع أن المنجمين كما ذكرهم القرآن كاذبون ولو صدقوا.
نستطيع بعد ما قلناه أن نحكم على أبي تمام في قصيدته "فتح الفتوح" أنه لا يكتفي بعرض الأحداث والإشارة غليها وإنما يجمع إلى ذلك نشر الفائدة والعبرة مما سجله ولهذا فإنه أورد بداية القصيدة في أسلوب حكميّ.
يقول ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة :" وكان أبو تمام فخم الابتداء، له روعة وعليه أبهة، كقوله...
السيف أصدق أنباء من الكتب    في حده الحد بين الجد واللعب                              
حسن الابتداء مطلوب في الشعر لأنه أول ما يقرع الآذان وما يحتاج إيه حتى يرسخ في الأذهان لذلك نلاحظ مع بداية النص أن أبا تمام قد انشغل بالاستهلال وانكفأ على إعداده وتهيئته للإبراز فجمع فيه المعاني وحشر فيه الأساليب بين البديع والتصوير.
يتميز المقطع الأول بتقليب المعنى على أوجه متعددة جوهرها الترجيح والمفاضلة للسيف على حساب التنجيم
قائمة أولى: السيف + بيض الصفائح + شهب الأرماح + الخميسين = كنايات عن الحرب
قائمة ثانية: الكتب + سود الصحائف + السبعة الشهب = كنايات عن العرافة والتنجيم.
الحكم عند أبي تمام لصالح القائمة الأولى أنها أعلى من القائمة الثانية لأن فيها الصدق المخالف لكذب الأخرى وفيها جلاء الحق المخالف لباطل الثانية وفيها العلم المنافي للجهل في القائمة الثانية .
إذن إن أبا تمام كما ذكرنا باستعماله الأسلوب الحكمي يريد أن يرسخ عندنا حكما يقنع به قراء قصيدته ويستعمل لأجله ما اجتمع إليه من وسائل التأثير التي تتكون من الأسلوب أساسا :
اعتماد الصورة الشعرية القائمة على الاستعارة عند وضع السيف والكتب في موضع المخبرين والمنبئين ومن منهما الصادق ومن منهما الكاذبُ؟ونحن نعرف لماذا نميز بينهما : لأننا نتقرب من أحدهما ونتجنب الآخر: أي أننا هنا ينبغي أن نميل إلى السيف وفي المقابل نرفض الكتب التي يكنى بها عن التنجيم.
كذا نفسُ النتيجة عند الصورة الثانية التي يظهر فيها التلازم بين العلم والرماح المشبهة بالنجوم وانتفاؤه في الشهب الحقيقية[4]   في البيت الثالث
لم يكتف الشاعر في الأبيات الثلاث الأولى باعتماد الاستعارة فحسب  بل نجده يكثف من استعمال أساليب البديع: طباقا{ الجد \ اللعب + بيض  الصفائح \ سود الصحائف } وجناسا تاما {حده \ الحد ؛ شهب / الشهب } وجناسا غير تام { الصفائح / الصحائف ؛ الحد / الجد } قصد تحسين اللفظ من جهة وقصد تحسين المعنى من جهة أخرى. لذا لولا استخدام البديع أسلوبا لضعف المعنى وفقد قيمته وضاع في الإطالة ولاعتبرنا أبا تمام قد ألح على معنى يمكن أن يفيه حقه من جملة واحدة كما ورد في القرآن" كذب المنجمون ولو صدقوا. " بينما شاعرنا قد قصد المعنى نفسه (: فضح السيف كذب المنجمين.) وردده في الأبيات الثلاث بين أيدينا وما يليها في النص الأصلي حتى البيت الخامس ولم نشعر معه برغبة في الانتقال إلى معنى ثان بل إننا لم نشعر أنه يتعرض في كل بيت إلى المضمون ذاته.
لا شك أننا نقف على ظاهرة من ظواهر إبداع الشاعر حينما يطنب حيث ينبغي أن لا يطنب وحينما يجره ذلك إلى تكلف الألفاظ وأدواتها ومع ذلك فإنك لا تنكر عليه تجاوزه بل تتقبله وكأنه يذكر معاني جديدة. ولكننا مع اعترافنا بتوفيقه هنا نتساءل لماذا اتبع أبو تما في هذا المقطع أسلوبه ذاك في الإطناب وفي تقليب المعنى بأوجه مختلفة؟
حتى نفهم ما عند أبي تمام لابد أن نشبهه بالمطرب للمواويل أو المرتل للقرآن وهما يأخذان مقطعا واحدا ويظلان يرددانه مرارا ومرارا ومع ذلك تنادي بعده الله الله أو تهتف أو تصفق معبرا عن إعجابك بالذي تسمع، كأنه نجح في التأثير فيك ونقل إليك المقدار العالي من تلذذه بما يقول. فالمسألة إذن يسبقها الذوق ويغذيها كشاعرنا : قد تقبل الحدث وراق إليه واستعذبه فعمل على نقل ما عنده إلى القراء وهو يقر أنهم متعددون وأن أي طرف منهم لابد أن يصله المعنى المطلوب فيخاطبه بما يفهم[5]  حسب ثقافته فإذا بالميالين إلى الأخلاقي أو الطابع اللاهي يتوجه إليهم بالبيت الأول وأما المتميزون بالعقل فيناسبهم ما ورد في البيت الثاني
بيض الصفائح لا سود الصحائف قي       متونهن جلاء الشك والريب
وأما المهتمون بالعلم ونتائجه فلهم البيت الثالث  
والعلم في شهب الأرماح لامعة      بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وقس على ذلك البيت الرابع للمهتمين بزخرف الأدب ولفظه والبيت الخامس[6] لأصحاب الصناعات 
أين الرواية أم أين النجوم وما        صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخـــرصا وأحاديثا ملـــــفقة      ليست بنـــبع إذا عــــــدت ولا غـــرب
حتى لا نطيل في التحليل هنا نلخص ما ورد في كون الشاعر قد انبهر بالحدث فأراد أن يخلده فوجه لذلك جهده كاملا ولم يدخره بما يطيق لفظا ومعنى واعتنى بالمتقبل فوزع كلامه إلى الغالب شعراء وعلماء وعامة ... لأن الحدث بذاته جلل ويجب أن يحظى بهذه العناية وبذلك الالتذاذ والاحترام لأنه عرف بواسطته الحقيقة وفصل فيه بين الحق والباطل الذي جعل الشاعر يتغنى بالفوز واثقا متحمسا فاصلا حتى في خطابه خاصة عندما يستعمل " لا " النافية للعطف. فما موقع الحماسة في هذا النص وكيف قادت الشاعر حتى يصور الأنجاز العسكري بإنجاز لغوي وثقافي؟
يقدم المثقفون الحضارة العربية أنها حضارة شعر وأن الشعر ديوان العرب.  ساهم في تخليد ما صنعه العرب في الحروب وأبقى على ذكر الأبطال من الجاهلية حتى أواخر عصور الازدهار. يثبت إذن أن الشعر خاصة والفن عامة كلاهما يعاضد دور البطل والقائد فيحتاج أحدهما إلى الآخر : ذاك يلتقط مادة شعره والآخر يكسب الاسم الخالد والشرف الدائم. يقول أبو الطيب المتنبي مخاطبا سيف الدولة يمدحه:
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه :. فإنك معطيه وإني ناظمُ
وفي نفس المعنى يقول أبو تمام موضحا ضرورة أدائه لدوره بعد أن تحقق الفتح على يد الخليفة المعتصم:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط :. نظم من الشعرِ أو نثر من الخطبِ
نجد الشاعر في هذا النص مدفوعا نحو معانيه ممتلئا بالحماسة زاهيا بما يتحقق. فللحرب أحكامها : منها ما نراه قبليا يقتضي الحماسة لتوليد الشجاعة ولطلب النصر. ومنها ما نراه بعديا لا يخلو من نفس الحماسة التي تدفعُ نحو استثمار النصر أو حتى الهزيمة أحيانا[7] لتوليد ثقافة الفوز وصنع الأمجاد.
الافتخار بالنصر أدخل الشاعر في درجة عليا من الرضا فأقبل على المعاني يعطيها من نفسه المتحمسة والمبتهجة لتلتقي فيها الصور وتحتشد بداية من تصوير الفتح إلى تصوير القلعة الحصينة فتصوير دمارها وإبطال مناعتهاحتى توير نصرة المعتصم للإسلام وجهاده في سبيل الله إلى أن ظفر بتأييده وتصديق نيته.
نبدأ بصورة الفتح فنجد أن أبا تمام قد نقله لنا في صورة مجسدة لبشر مزهو ارتقى بإنجازه نحو الصف الأول بل إلى قمة المجد كما في عبارة " فتح الفتوح " التي تماثلُ عبارة فارس الفرسان أو فتى الفتيان تجاوز الفتح في مقامه أن يوافقه أي معنى من المدح ومن الذكر الطيب لأن الحدث لا يساويه حدث والرفعة لا تفوقها رفعة في حين أن اللغة تصف الموجود لا المتجاوز عن العادة.
لذلك فإن علاقة الفتح تعدت الحدود البشرية لتصل إلى الإله من يتولى قبول الإنجاز ويمنحه رضاه فيكرمه. وهكذا فإن ما لا طاقة للبشر به يتولاه الله ويتراجع عنه الشعراء والخطباء من يوكل إليهم صنع التكريم.طبعا هنا ما يكون عند الله لا يكون عند الإنسان. كله يتصف بالضخامة أرضا وسماء .
لقد استدعى الشاعرُ هنا صورة دنيوية تنقل حفلات التكريم والتميز ولكنها ذات صبغة خارقة يتوسط لها ما نسميه بالصورة المنتشرة عموديا في السماء : " فتح تفتح أبواب السماء له" والمنتشرة أفقيا في الأرض:" وتبرز الأرض في أثوابها القشبِ " ولكنه يتجنب هذا المعنى ويركز على معاني نتدرج فيها إلى الصور المستمدة من التاريخ لا من المبالغة والخيال.
الصورة المجسمة الثانية اتصلت بالحدث التاريخي نفسه: " يوم وقعة عمورية " إحالة على الحروب السابقة في العصر الجاهلي التي عرفت أحداثها وكانت مناسبات يعود إليها العرب لتحديد الأزمنة ما قبل يوم البسوس أو ذي قار وما بعدهما يتناولون فيها مكارم أخلاقهم وبطولاتهم .
هكذا هو نفسه حسب الشاعر أبي تمام " يوم وقعة عمورية " له وقعه في التاريخ العربي والإسلامي يجدر أن يضعه العرب في مقامه الذي يليق به كما تبين من الاستعمال السابق فتح الفتوح ، إنه يسوق لكل العرب المنى المشبهة بالناقة ذات الضرع الممتلئ حليبا مختلطا بالعسل. إنها صورة قد تظهر غريبة : كيف يصور الشاعر اليوم المشهود ذلك ، بالناقة مجتمعة اللبن؟
إن الصور التي يعتمدها أبو تمام قد يبدو أنها بعيدة تخالف ما يرسمه النقاد والبلاغيون ويشترطونه لسلامة التصوير. إنهم يرون أن التشبيهات والاستعارات ينبغي أن تعتمد الجمع بين ذوات الصلات المتقاربة شكلا أو لونا أو صفة حتى يسهل تمييزها. لكن أبا تمام في ما يظهر يخالف القواعد المعروفة فينشئ صوره بين أطراف متباعدة لا يسهل تمييزُ وجه الشبه بينها. هذا التمشي منه قد نفسره بمذهبه في الشعر أنه يسعى إلى أن يكون للتفكير بُعدٌ أكبر من ذي قبل ، ما يغذي نفس هذا السعي منه التقدم العلمي الحاصل في عصره خاصة في عهد المأمون الذي أسس بيت الحكمة وترجم الكتب  الواردة من الحضارات السابقة منها الفلسفة اليونانية وحكمة الهنود التين اطلع عليهما شاعرُنا وأخذ منهما ونمى ثقافته عن طريقهما.
إذن ثقافة أبي تمام واتساع المعارف في عصره أثرا حتى على شكل القصائد التي ينظمها محتوية على صور ومعان لم تكن متداولة قبله من ذلك الصور التي سنذكرها تباعا:
صورة المنى التي تشبه الناقة مجتمعة الحليب للتعبير عن فائدة يوم وقعة عمورية وما سيجلبه من آمال غير محصية  لصالح العرب والمسلمين المستفيدين من سقوط المدينة على يد خليفتهم. يظهرُ لنا ذلك في الصور اللاحقة عند وصف عمورية البلاد تاريخا وغنيمة:
الصورة الأولى لعمورية هي صورة الفتاة البكر الحسناء المتمنعة عن طلابها والمحتجبة عنهم برغم كثرتهم ورغم شرفهم وعلويتهم. هذه المدينة وجودها منذ عهد كسرى ملك الفرس وأبي كرب من ملوك حمير في اليمن أو حتى قبل ذلك من عهد الإسكندر الأكبر. هؤلاء الملوك جميعهم اشتهروا بخوض الحروب واشتهروا بإنجازاتهم الحربية ومع ذلك فإنهم لم يلتفتوا إلى المدينة موضوع قصيدتنا لا لعدم أهميتها وعدم قيمتها بل لأنها بعيدة المنال عليهم محصنة يفتديها أهلها كأنها أمهم يستميتون في الدفاع عنها ولا يقدر بذلك واحد منهم دخولها فظلت هذه الحسناء مطلوبة محبوبة ولكنها بكر فوق المنال.
بعد صورة الأم وصورة الحسناء نجد صورة ثالثة لنفس المدينة : إنها صورة الحليب في الخابية يتولى الله إعداد عمورية لمن قدرت له كما تعد المرأة البخيلة الحليب لتحوله إلى زبدة فماذا يعني بذلك؟
تعني الصورة الثالثة أن المدينة حافظت على ألقها وعلى تميزها لم تعرف من قبل الكرب حتى امتلأت بالكنوز والخيرات ليفوز بها من يسبق الملوك جميعهم إليها فيكسرَ القاعدة أنها ممتنعة عن كل غاز. صاحب هذا السبق لن يكون إلا سيف الدولة من سيفتح عمورية ويفوز بمدخراتها وينتفع بها وقومه في عهد خلافته وخلافة من يليه.
نلاحظ أن المعاني الواردة في الصور هذه تتجه إلى إعلاء مكانة المعتصم لتنسب إليه أحداثا لا تكون إلا لمن يتفوق على الملوك ويتقدمهم ويسبقهم. لكن الجديد في ما يعترضنا من وصف أن الشاعر لا يعتمد المدح المباشر ولكنه يعتمد المدح بالإحالة. لأن المعنى الملمح إليه هنا لا نعتبره جديدا بل سبقه إليه النابغة الذبياني الذي قال مادحا :
وأنت شمس والملوك كواكب     إذا طلعت لم يبد منهن كوكبُ
و سنجد المتنبي بعده يقترب من هذا المعنى في مدحه عندما يقول:
تظل ملوك الأرض خاشعة له   تفارقه هلكى وتلقاه سجدا
على ما في البيتين من جودة التصوير والمقارنة إلا أن أبا تمام يتميز بإكساب ممدوحه الشرف فوق ملوك الأرض شرفا بأسلوب غير مباشر وإنما عن طريق التلميح ليكون بذلك حسب تعريفات الشعر أقرب إلى الشعرية من غيره لما تحتويه معانيه من شحنة تلميحية نراها في الجانب الآخر المقصود إليه من مدح المعتصم يتناسب وسياق النص يذكره لنا بلوازمه ولا يذكر لنا شيئا من معانيه.
الصفة المدحية الثانية التي نصل إليها من قراءة الأبيات وتفكيك صورها هي صفة القوة والقهر لأعدائه قدمها لنا أبو تمام وفق مظهرين إثنين:
أما المظهر الأول فيتبين من ذكر امتناع حصن عمورية على امتداد التاريخ السابق كله وذكر عدم تجرؤ غيره على الهجوم عليها لاستعداد أهلها من أجل الدفاع عنها واطمئنانهم إليها والالتجاء إليها تجنبا للغارات والمباغتات. ما يعني أن المدينة قوية ولذلك فإن من ينتصر يشرفه نصره على هذه المدينة القوية بفرسانها الشداد من جهة، ويليق به وصفه بما يوصف به الفرسان أصحاب القيادة من جهة أخرى[8] .
وأما المظهر الثاني لوصف المعتصم بالبطولة فيظهر من قوة الدمار الذي ألحقه بعمورية التي لم يترك فيها عمودا قائما مما يعني أنه سواها بالأرض كما نتبين في الكناية المختلطة بالاستعارة عندما يقول:
لقد تركت أمير المؤمنين بها    للنار يوما ذليل الصخرِ والخشب
لعلنا نعتبر ما أقدم عليه المعتصم في حربه يتعارض مع وصايا الرسول ( ص ، ل ) لصحابته عند خروجهم للحرب[9] غير أنه في سياق القتال قد يعد دالا على البطولة وعلى حسن القيادة وعلى قهر الأعداء بتقديم صورة مذلة عن فرسانهم
كم بين حيطانها من فارس بطل    قاني الذوائب من آني دم سرب
و أتعس عن مدينتهم وقد تحول ليلها نهارا ونهارها ليلا كما بينته الاستعارات والمقابلات في الأبيات من الثامن عشر إلى الواحد والعشرين حيث كان اعتماد الشاعر على منهج تفصيلي للأحداث لا يخلو من التوضيح والتفسير والتقليب اعتمادا على أهمية القول لذلك فإن شاعرنا كلما اعترضه معنى يعتبره هاما تتعدد مقاصده يعتمد فيه الأساليب التي ذكرناها.
المعاني المدحية التي رأيناها في الأبيات المذكورة حربية تعكس الشرف الذي يناله المعتصم في انتقامه وفي تدميره لعمورية لكن الفضل الباقي في صفاته سيظهر في الجانب الديني وهو ما نتعرض إليه في الوحدة الثالثة:
يتضح من البيت الثالث والعشرين أن الصراع بين الكفر والإيمان وأن السيف الوسيلة الأولى للفصل بينهما لكن هذا السيف لابد أن تمسكه يد قائد حكيم مدبر يجد الأزر من عند الله. هذه المعاني ظهرت في البيت المرصع ذي الإيقاع الاحتفالي المبتهج بالنصر وبمدبر النصر معا وبرضا الله على الفاتح جزاء على إقدامه وغزوه للروم احتسابا لله لا يبتغي فضلا غير الثواب.
ذلك جميعه ورد متوازيا في البيت الرابع والعشرين حيث نرى العجز مخصصا للمعتصم في حين الصدر مخصص لعلاقة المعتصم ذاته مع الله يقول:
تدبير معتصم بالله منتقم        لله مرتقب في الله مرتغب.
نلاحظ أن التركيب إضافي فيه معنى النسبة نسبة الأعمال كلها إلى حسن التخطيط والقيادة المعبرة عنها لفظة تدبير لكن هذه القيادة مع انتسابها لشخص المعتصم فقد حظيت بقبول ورضا من الله لاعتبار انه يقوم بذلك كله راغبا في وجه الله ورضاه وهو ما أنتج له النصر، ذلك أنه لو لم يخلص النية لله لما حقق نصره التاريخي الساحق الذي تعرضنا إلى أهم خصائصه.
أجبته معلنا بالسيف منصلتا    ولو أجبت بغير السيف لم تجب
بمعنى أن أبا تمام لو لم يكن يقصد طاعة الله لكان سقط في الخطإ الذي كان غيره يقع فيه ألا وهو الاستجابة إلى قول الدجالين والمنجمين لكن إيمان المعتصم الصادق وجد بسببه التأييد الكلي من الله وأوقد عنده العزيمة فأقدم على الحرب ولم يتهور متصفا بصفة الفرسان الشجعان أو صفة الأمراء ذوي القيادة الرشيدة.
من المقطع الذي نحن بصدد تحليله نتبين أن الشاعر قد تعرض إلى صفات المعتصم القيادية والعقلية والدينية وأكد أن الله في عون عبده مادام عبده عند طاعته يوفقه بالنصر مع التأييد .
عند تحليلنا لنصنا وقفنا على نتائج مختلفة قصد إليها الشاعر منها شدة الترابط بين الفعل والحق : تكسب مادمت تتصرف وفق المطلوب منك دينا لا تعترف برأي غيره. ومن ذلك تتعمق الفضائل فإذا بالإنجاز يكبر وتبرز فيه كامل معاني الحماسة بطولة وقيادة ومجدا ومهابة وقهرا للعدو. غير أن ميزة أبي تمام في هذه القصيدة أنه قدم المعاني تلك بأساليب إيحائية لا مباشرة وصنع لها صورا جديدة غير مألوفة ليست أطرافها قريبة وجه الشبه. مع هذا فإنها حملت شحنة تأثيرية تقدم صورة البطل كما صورة النصر كما صورة العدو وصورة هزيمته.
لئن حملت القصيدة معاني عميقة أثارت النفس والعقل فإننا قد نتساءل على سبب تصليت كل القيمة للسيف في حين أن أبا تمام لم نره يلتفت إلى قدرات ثانية عقلية ونفسية قد يكون لها نفس الوزن في تقريب الفوز والمجد والشهرة. بل إن الشاعر في كنايته عن التنجيم بالكتب قد أوقع بعض الالتباس عند المتقبل أهو يقصد العلم كاملا أم يقصد التنجيم ولولا السياق التاريخي الذي أنار لنا القصد ما كنا لنفهم المعنى المقصود إليه حقيقة.

حفلت قصيدة أبي تمام " فتح عمورية" بالصور والمحسنات البديعية لتمجيد النصر المحقق وإعلاء صورة الممدوح في واقعة حماسية غير أننا نلاحظ أن نقله لأحداث النصر اقتصر على النتائج في حين يخلو من لوحات تتعرض لمشاهد القتال تدل على أنه يصف وصف مشاهد لا وصف ناقل. لكن التمجيد الواضح للنصر قدمه تحت تبرير محاربة المعتصم للأعداء أهل الكفر فكيف سيتسنى له التبرير عندما يصوره يخوض الحرب ضد أعداء من نفس الديانة؟

  نزار الديماسي




[1]  يقول أرسطو:" ليست المحاكاة رواية الأمور كما وقعت فعلا بل رواية ما يمكن أن يقع ، فلو كتب تاريخ هيرودتس شعرا لظل تاريخا لأنه يروي ما وقع لأشخاص معنيين فهو جزئي يروي ما هو خاص بأفراد، في حين مواضيع الشعر كلية عامة. وليست أسماء الأشخاص في الشعر إلا رموزا كلية لنماذج بشرية حتى لو كانت هذه الأسماء تاريخية لأن التاريخ ذريعة الفنان.
[2] قال ابن رشيق:" وليس في المولدين أشهر اسما من الحسن أبي نواس ثم الحبيب والبحتري، ويقال إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد
[3] Il vaut mieux agir trop rapidement qu’attendre trop longtemps
[4] L’enthousiasme a toujours engendré  la certitude : Alfred espinas
[5]  خاطب القوم بما يفهمون
[6]  الرابع والخامس في النص الأصلي لا الديوان
[7]  قصيدة المتنبي : السيف معتذر والدهر منتظر
[8]  في هذا المعنى نقدم بيتين لسعد بن أحمد القيرواني أحد الفرسان الشعراء يقول:
قالوا انتصرت هنيئا قلتُ ويحكمو    إن انتصاري عليهم لا يشرفني
فليس بالنصر نصر الأسْدِ ضارية   على الكلاب وسرب الإضبع النتن
[9]  أخرج أبو داود بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشًا قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق