الثلاثاء، 8 فبراير 2022


حاجة العقل إلى الشحذ

طرح القضية:

تحديد أنشطة العقل
المعاني
تهويل أثر العقل
المعاني
العقل : أطول رقدة من العين
     : أحوج للشحذ من السيف
     : أفقر إلى التعهد من:؟
    : أسرع إلى التغير من : ؟
اتباع منهج تحليلي: يبدأ بطرح القضية واستخدام المقارنة بين العقل والرقدة أو السيف . يتم النظر للعقل باعتباره أنشطة  يصيبها الضعف كما تصيبها القوة. لذلك يقارن الكاتب العقل بالسيف القوة وبالرقدة الضعف أو الغياب عن المحيط ويقارنه بالمطلق لا يقع تعهده ولكنه سريع التغير.
العقل أقتل من السيف
     أطباؤه أقل من الجسم
     علاجه أقل من من علاج أهل 
     الرقدة                     
إن قياس العقل بالسيف وبالجسم يضعه في مقامه ويشعر من يوجه له الخطاب المباشر بضرورة الاتجاه إلى العناية به كما يعتني بجسمه وبسلاحه بل عليه أن يعمق العناية به أكثر نظرا إلى أنه أكبر أثرا وخطرا ومع هذا فهو مهمل إما لعسر الوصول إليه وإما لتناسيه مقارنة بالجسم والأدوات.

الترهيب : من رامه بعد التفاقم  لم يدرك شيئا من حاجته: اعتماد أسلوب الشرط     القضية :ضرورة الإقبال على العقل باكرا سواء عند الشعور       
الترغيب: من تداركه قبل التفاقم أدرك حاجته : الشرط والمقابلة                    بقيمته أو عدم الشعور والاعتناء به كأنه الجسم أو كأنه                                                                                                          معدن
                                                                                                 تصونه،لكن أي وسيلة قد تشحذ العقل وتحفظه؟               

التحليل:

نلاحظ أن الجاحظ قد اتجه في تحليله إلى تقسيم موضوعه تقسيما يعكس ما يقتضيه العقل من تصنيف أو تبويب وتنظيم يساعد على التبليغ والتقبل فإلى أي حد سيبدو التنظيم في التحليل؟ وما هي أقسام موضوعه المتناولة بالتفسير وما علاقتها بالعقل؟


                                                                               التمييز بين غث الخواطر وسمينها

                                                                                  التمييز بين فاسد الخواطر وسمينها

                                          كثرة الخواطر:                    التمييز بين سريع الخواطر وبطيئها       قام هذا الجانب المتعلق بالعلم على

العلم وأسبابه                                                                تمييز الدقيق الجليل و الطبقات والمنازل     أسلوب التراكم والازدواج وعلى

                                                                                طرق                                           الإشارة  دون التفصيل لأن الغاية
                                                                                                                                  تربوية لا علمية : العقل - سلوك

                                     معرفة وجوه المطالب                  أبواب


                                    حفظ ما حصل

                                    تقييد ما ورد          الخبر طويل قام على التوازن بمركبات شبه إسنادية قائمة على المصادر لإفادة الإطلاق



أنفع أسباب العلم                 انتظار ما لم يرد      ومركبات موصولية : تكرار حرف " أنْ " لإفادة التفسير ولتوضيح أنفع أسباب العلم
                                حدود الفكرة
                             الغاية من العلم
يظهر من النص أن الكاتب قد ميز في المعنى بين " أنفع " و " أفضل " وكأن لكل منهما معنى مختلفا عن الآخر فكيف نميز بينهما في المعنى؟
العلاقة بينهما علاقة السبب بالنتيجة باعتبار أن الأنفع أفضل وأن الأفضل أنفع.


                                          تخليص أخلاقه

                                          تميز أجناسه             ركز الأسلوب بعد الازدواج على الغاية وكأنه يوجه إلى أي موضوع يتجه الدارس




أفضل أسباب العلم                  معرفة أقداره               ويعرف الباحث
                                      إعطاء كل معنى حقه
                                  الانشغال بالثمين
                                إهمال الوضيع 

الخلاصة

شروط النجاح : حسن التصرف والتمييز بين السرعة والعجلة أو بين الأناة والإبطاء والتيقن من الوصول للحق و الانتفاع به وذاك ما وضحه الجاحظ بواسطة التأكيد والتوضيح بالحرف الموصولي " أن "

التقييم

إن الإطناب والإطالة المعتمدين في النص إذا كان يبرر بتناول موضوع يراه الكاتب على قدر من الأهمية : يربط  بين العقل والعلم غير أن الجاحظ قد لا يبدو مقنعا لاعتبار أن الغموض سيطر على النص وأن الهدف غير واضحٍ لأن الأفكار المقدمة قامت على التجريد وغاب فيها التمثيل والتوضيح. قد نعيد ذلك إلى أن المعني بالخطاب فئة العلماء والجاحظ يخاطبهم بأسلوب يرقى إلى مقامهم غير أن الجملة الاعتراضية في بداية النص أو الفصل – حفظك الله – ظهر فيها الخطاب مباشرا وقد يكون أقرب أنه موجه إلى عامة القراء لا نخبتهم.

التأليف

ميل الجاحظ في النص إلى التقسيم ، وقيام التحليل على التراكم والأسلوب على الشرط والازدواج والتأكيد والقياس والمفاضلة يخدم المنحى التعليمي أو التربوي الذي بني عليه اتجاه النص فوصل بين العقل باعتباره آلة التفكير وميزة الإنسان ينبغي أن تحافظ على سلامتها. المصلحة تقتضي الالتفات إلى العلم والنهل منه وتحمل أعبائه ومشاقه كسبا لمنافعه وفضائله وتجنبا لتفاقم سلبياته ومضاره. الجاحظ في ذلك يصدر عن موقف ذاتي باعتباره ينتمي إلى مذهب الاعتزال يمجد العقل ويدعو له ، لذلك فمن غاياته المبطنة أنه حينما يضع المخاطب أمام قيمة العقل فكأنه يقربه أكثر إلى المعتزلة.

الاثنين، 7 فبراير 2022

مصادر الجاحظ العلمية وأثرها على نزعته العقلية في مؤلفاته

المقدمة

لئن عرف الجاحظ في نشأته الأولى قسوة الحياة وخشونتها، فعاش اليتم صغيرا ونربى فقيرا، فإنه لم يفرط في حاجته إلى التكوين ولم يهمل أدوات المعرفة. ولا نستطيع أن نميز أيعود ذلك إلى والدته ألقت به إلى الكتاتيب وتحلم له بالتميز، أم تولد ذلك من رغبته في التعلم تسكنه وتفجر نهمه إلى العلم والبحث. لا شك أن كليهما لعب دورا في إنماء شخصية الجاحظ العلمية والثقافية، فبرزت منه علامات النبوغ منذ ارتياده الكتاب في البصرة وتلقيه أول ما يتصل الصبي في البصرة آنذاك لحفظ القرآن: اكتشفت أمه في نفسه طموحا إلى الارتقاء في درجات العلم فلم تحد من عزمه. وهو في الآن ذاته أدرك أنه يقدر على الوصول فلم يكتف بما يكتفي به أقرانـُـه إلى حدود الكتاب. اتبع خطوات علماء عصره وحث نفسه على المنفعة العلمية وغذى عقله ونمى إرادته وارتقى معرفيا والتحق بحلقات الشخصيات المتميزة علميا بعد أن تشبع بالكتب ود كان يشتغل نهارا ويرتاد محلات الوراقين ليلا. لقد أقبل على الحلقات الفكرية يستمع إلى أصحابها في المسجد وفي سوق مربد وفي مجالس العلماء التي تقام في ديارهم.

لعل ذلك ما كان يسوقه إليه طبعُه وحبه للعلم فاقتفى أثر استزادة  العلم حيثما كان، ولكننا لا نستطيع أن نتغافل عن أسبابٍ شخصية نفسية وعضوية كانت لا تشغله عن أهدافه العلمية وتحقيق الامتلاء من ثقافة عصره والتوسع فيها. من ذلك نذكر خصاله التي نمت معه من صغره كدقة الملاحظة التي لا تكاد تخلو منها مؤلفاته المتناولة لأدق الجزئيات في كل مسائله التي يطرحها. ومنها روحه المرحة الظاهرة كذلك في كتبه وقد ساعدته لينظم إلى المجالس ويقترب من أصحابها على تنوعهم. وفي المقابل فإن خلقته كانت دميمة فلم يكن بسببها ليلقى الحظوة من الجميع إلا إذا كون له ميزة تعوض نقصه الخلقي وتحقق له المقام المحوري بين الناس. ولن يجد وسيلة لأجل ذلك تعادل السبق العلمي وتضاهيه. لذلك لم يدخر أي جهد يسير به نحو السؤدد والتقدم واكتساب المجد. فانطلق يجوب الأراضي ويرتحل بين البلدان فوصل إلى بلاد فارس وإلى دمشق يتعرف عليها ويطلع على حضاراتها وعلى تفاصيل طبائع أهلها. واتصل بأشهر علماء عصره في اللغة والأدب وعلم الكلام : تعلم على الأصمعي وعلى أبي عبيدة وعلى إبراهيم النظام الذي سيكون له الفضل الأكبر عليه في مستقبل الجاحظ وعلى فكره وسنبين ذلك في جوهر الدراسة خاصة في جانب المكانة التي سيحظى بها بين المنتمين للفكر الاعتزالي والمناصرين له.

لقد ذاع بحكم ذلك صيت الرجل وأصبح يتجاذبه كبار رجال الخلافة من الوزراء والكتاب وخاصة الخلفاء الذين قربوه أهمهم المأمون وأخوه المعتصم. بهذه الحياة الغنية تكونت لديه النزعة لاعتماد العقل في الحياة فنظر إلى كل شيء وحوله إلى الكتابة حتى أننا لا نتخيل أن هناك موضوعا في عصره لم يتناوله بالدرس وبالتحليل العقليين في كتب فاق عددها المائة. لذلك نقول إن الدارس لمؤلفات الجاحظ لموسوعيتها وتعدد مجالاتها، يستعصي عليه وضعها في محل سيطرته والتحكم في مادتها. لكن ذلك ينبغي أن لا يقطع مع المحاولة وانتقاء الأجزاء التي نعتبرها تمثل الجاحظ في إبراز نزعته العقلية في كتبه: من حيث المصادر ومن حيث المناهج ومن حيث المضامين والأساليب والأهداف.

1 مصادر الجاحظ.

لقد ذكرنا أن مواضيع الجاحظ في مؤلفاته لم تكد تغفل عن أي موضوع يناسب عصره: سواء في مجال الطبيعة أو الحيوان أو الاجتماع أو الدين والثقافة بشكل موسوعي. فللسائل هنا أن يبحث كيف تم له هذا الإلمام بتلك المواضيع المختلفة؟

1-1   مصادر ذاتية عقلية

نربط ذلك بحياة الجاحظ وديمومتها في عصر الازدهار العربي. امتدت حياته قرابة القرن وعاصر إثني عشر خليفة اقترب من بعضهم وجالس أقواهم، وفي المقابل تجاهله أضعفهم. ولا نظن أن حياته كانت مسالمة لولا أنه قابلها بسلوكه العقلي وممارسته الواعية بكل ما يأتيه، فأصبح يتقبل كل ما ينتقل إليه من المعارف والعلوم وهو يتحكم في غرباله العقلي يفرز بواسطته ما يعترضه. فكيف تصرف مع غزارة العلوم التي تصله وتنقل إليه الأخبار والأفكار، بأسلوب عقلي محض؟

1-2مصادر نقلية

عديدة هي الأخبار التي يرويها الجاحظ عن معارفه وعن ثقاته وعن رجال عصره منهم من كان يثق في رواياتهم فيعتبر ما يقولونه كأنه من قوله وما رأوه كأنه من معاينته ، يظهر مثال ذلك في حديثه عن الانتباه الغريزي عند الكلب حيث يقول:" حدثني صديق لي..." وكان كثيرا ما يذكر أسماء بعضهم فيستدل مثلا بالنظام لمكانته عنده ولكونه أستاذه الذي كان له تأثير على فكره وعلى وجدانه، لأن المرجح أن الجاخظ اكتسب الميل إلى الفكر الاعتزالي لما اتصل به واقترب منه. وهو لا يخفي مكانة إبراهيم النظام عامة على الخلافة فكيف بها على مستواه الشخصي يتعرض إليه في إطار إثبات موقع الاعتزال على الحياة العامة وموقع أستاذه داخل فرقة المعتزلة يقول:" لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل، فإن لم أقل لولا أصحاب إبراهيم لهلكت العوام من المعتزلة، فإني أقول إنه قد أنهج لهم سبلا، وفتق لهم أمورا، واختصر أبوابا ظهرت فيها المنفعة." وغير النظام نجد الجاحظ يعلي من قدر إسحاق بن سليمان أحد من أسندت إليه الولاية زمني هارون الرشيد وابنه المأمون في إطار سلسلة الناقلين لخبر أن الدساس من جنس الحيات وهي تلد يقول:" ...فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم." ويبدو أن الجاحظ كما كان يعترف بشهادة المقربين منه وأقوالهم كان يستدل برأي أصحاب الاختصاص ويستحضر فضلهم  حول ما يتولون نقله متعلقا باختصاصاتهم، يعكس بذلك مدى اقترابه منهم لينتفع بما لديهم من المعرفة والتجربة فتجده يذكرهم في نصوصه بصنائعهم:" وسمعت حديثا من شيوخ ملاحي الموصل وأنا هائب له، ورأيت الحديث يدور بينهم. "أو:" وخبرني من يصيد العصافير. و" وشكا لي حواء مرة فقال:.. " وقد كان يذكر البعض بنسبتهم وبأسمائهم كانوا حسب سيرهم يعرفون باختصاصات يحتاجها الجاحظ في خبره وتقديمه كابن أبي العجوز باعتباره حواء يعتمده الجاحظ في رواية أخبار الحيوان، وكمسلمة بن محارب النحوي والراوي للأخبار يذكره الجاحظ مع جملة من الثقاة يقول:" ومن أراد الأخبار فليأخذها من مثل قتادة وأبي عمرو بن العلاء ... وأبي عبيدة ومسلمة بن محارب ومحمد بن حفص، فإن هؤلاء وأشباههم مأمونون وأصحاب توق وخوف من الزوائد وصون لما في أيديهم وإشفاق على عدالتهم."

مجموع ما ذكرناه يثبت أن الجاحظ يعتمد في نصوصه المصادر النقلية وهو يتوخى في ذلك ما تجري عليه العادة عند كتاب عصره ومن تبعهم ألا وهي عادة الاعتماد على الأسانيد التي قويت واستمدت مبرراتها من رواية الأحاديث النبوية خاصة. لأنها وقع اعتمادها المصدر الأساسي للتحقيق في درجة نسبة الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لها الدور الفعال في النصوص التي تنقل أخبار الأولين وسيرهم للإيهام بمصداقية الرواية وواقعيتها. ونحن في ذلك نلتمس مدى تداخل العقل في النقل مادام الراوي معلوما عند القارئ فكيف يمكننا التماس ذلك عندما يعتمد الجاحظ على أسانيد مبهمة وغامضة لا نعلم عن أصحابها سوى أنهم ضمير غائب المفرد أو الجمع: فإن قال قائل.. وقد قال ناس؟

جوابنا هنا أن الجاحظ لا يختلف اعتماده على العقل وهو يرجع إلى أقوال لا نعلم أصحابها ولا نحقق فيمن يخاطبنا بها. إنه في اعتماده على الطرف النقيض حتى وهو غائب يؤكد أن كاتبنا يهتم بأسس البناء العقلي في ما يقدمه لأنه لن يكون أكثر إقناعا وهو يركز على فكرة واحدة كما وهو يقابل بين فكرته وفكرة الطرف المحاور يناقضه الرأي حتى إذا اضطر إلى استدعائه افتراضيا. لذلك نرى الجاحظ يظهر في كتاباته العلمية التحليلية المنطقية بشخصيته العلمية ملتزمة بقانون المنهج العلمي الذي يستند إلى السيرورة الحجاجية  أو إلى مراحل التجربة ولا بأس أن يدعمها بالمراجع النقلية كالدينية قرآنا وسنة والفلسفية بالعودة كما يذكر إلى صاحب المنطق الفيلسوف اليوناني أرسطو مؤلف كتاب بنفس عنوان كتاب الجاحظ: الحيوان.والأدبية بالتركيز على الشعر ذاكرة الشعوب ومخزونها يقول :" إذا لم يأتنا شعر شائع أو خبر مستفيض لم نلتفت لفتة." فكيف بدت شخصية الجاحظ العلمية وهو يركز على المنهج العلمي وهو يتجه إلى إثبات أخكامه؟

1          المنهج العلمي في كتابات الجاحظ.

يمكن أن نقسم مواضيع الجاحظ التي تناولها حسب مؤلفاته إلى ما هو علمي طبيعي اعتمد فيه الجاحظ على أساس المراحل التجريبية لبلوغ الحكم اليقيني من جهة وإلى ما هو ذهني فكري فكان يركز بالأساس على الأسلوب الحجاجي للخروج بالنتيجة التي طرحها في المقدمة من جهة أخرى.

1-1   المنهج التجريبي.

هذا المنهج أنسب إلى المواضيع الطبيعية والسلوكية عند الحيوان كما عند الإنسان. ولصفة كتابات الجاحظ الموسوعية فإنها لم تخل من طبيعة هذه المواضيع التي كانت تلزم صاحبها المتشبث بالنتائج العلمية المتباينة عن موقف العوام في الأخذ بكل فكرة أو معلومة يتقبلها دونما تمحيص ولا تقليب، فيساهم ذلك في إنتاج الفكر السطحي البسيط.

من هنا ندرك أن الجاحظ يطلب أن يتعالى عن هذا الأسلوب البسيط في الحياة فاتجه إلى تعقيدات المنهج العلمي ومعاناته ليحقق صورة الشخصية العلمية. كان يختلف عن العوام في طريقة استثمار المعلومة والملاحظة: فإذا اكتفى العوام بالتقبل والتنفيذ فإن الجاحظ يتوقف عند الفكرة ويتريث ويتروى ولا يصدر حكما وإنما يبقى على الحياد العلمي ( لا مع ولا ضد):" ولم أكتب هذا لتقر به ولكنها رواية أحببت أن تسمعها ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل. بعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما. فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف، ثم التثبت لقد كان ذلك مما يحتاج إليه." واضح من ذلك أن الجاحظ يؤسس للمنهج العلمي ويقطع مع المسلمات أي أنه يطلب أن يزداد تقدما في التناول لا أن يبقى أسير ما يتلقاه وذلك هو من صميم الفعل العقلي الذي آمن الجاحظ به بصفته الشخصية وبصفته المذهبية. لقد دعا إلى الشك على اعتبار أنه يبني الفكر من جهة وينفذ إلى الحقيقة من جهة أخرى. 

الحل الذي يهتدي إليه بعد الملاحظة والمعاينة يتطلب عرض ذلك على التحقق من صحته أو عدمها. ولا يتم ذلك إلا بواسطة التجربة، وههنا تكمن الصعوبة لأن التجربة لا تكون متاحة لصاحبها دوما خاصة مع حدود الطاقة الفردية ومع عدم الملاءمة بين مواطن الحيوانات التي ينبغي أن تخضع للتجربة ومكان المقام بالنسبة إلى الباحث. هذا المثال نتبينه من مجموعة الأخبار التي عرضها الجاحظ حول الدساس والأروية و النمرة. في كل الحالات ذكر الخبر وتدرج بنا إلى مرحلة التجربة واكتفى بالتوجيه والإرشاد، لأننا نفكر أن الجاحظ لم تتوفر له الإمكانية للأسباب التي ذكرنا وقد كان في وسعه أن يتخلى عن ذكر الأخبار مادام غير قادر على إتمام التجربة وعلى إصدار الحكم، غير أن شخصيته العلمية تبرز وتحدد مفهومه للعلم أنه يمكن أن لا يكون من صنع الفرد الواحد بل قد يشترك فيه مجموعة من الأصحاب كما يمكن أن تتكامله الأجيال في أخذها عن بعضها بحيث أن ما يبدأه الأولون ينهيه المتأخرون. وهكذا نتأول أحيانا لم الجاحظ  لا يقدم الحلول في بعض المسائل التي نتصور أنه يعجز عن إتمامها.

 وهذا القول يدعونا إلى الاستنتاج أن الشخصية إذا ما أقدمت على التفكير بهذا المنحى أساسا فهي شخصية عقلية وعلمية لأن العقل يأبى الانغلاق ويقبل على الانفتاح. يقول الأب فيكتور شلحت اليسوعي في كتابه النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ:" لم يكتف الجاحظ بالتجارب التي كان يقوم بها شخصيا أو يأمر بها بل كان أيضا يفيد من تجارب غيره توصلا إلى المعرفة الثابتة لأنه كان يعلم أن تجارب الإنسان الواحد متناهية ومعرفته عن طريقها محدودة" ولو لجأنا إلى قدر قوتنا.. ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا... لقلت المعرفة." يؤمن الجاحظ بالتواصل وبالانفتاح وبحدود الذات وبمقدرتها فقطع مع التجربة حينما عجز، فيتركها لمن يأتي بعده. وأكمل التجربة أو استعان عليها أصحابه وقتما أمكنه ذلك.

من أمثلة الأخبار التي دعت فيها المفاجأة والملاحظة الجاحظ ليتم التجربة ما تناول منها أنواع الحشرات والحيوانات التي تكثر في الوسط الذي ينتمي إليه. نذكر منها الأخبار عن الكلاب كذاك الكلب الذي أثار الانتباه بشعوره بالأكل حسب العادة أو الكلب الذي قيل إنه يحدث أثرا غريبا على الشخص بعد تعرضه إلى العض بواسطة كلب أصابه الكلبُ وكذلك هو الشأن مع الحشرات ومع الذبان والجعلان. فإن الجاحظ مع المخلوقات التي ذكرنا لم يكتف بتجربة واحدة بل نقل ما كان عن نفسه وعن أصدقائه وعما هو متداول في وقته ليصل في نهاية كل نص إلى إعلان النتيجة. وذلك لأن التجربة أسبابها متاحة وإمكاناتها متعددة بما يسمح له اتباع المنهج الاستقرائي الذي ينتقل من التجارب الخاصة ليؤسس منها أحكاما عامة.

في تناول الجاحظ للحيوانات البري منها والمائي والوحشي والأليف والصغير والكبير عكس حبه للمعرفة وعزمه على البحث لبلوغ النتائج ولم يكد يحتقر أي شأن في ذلك وهو الذي تحدث عن تجربة أقيمت ليظهر حقيقة أن الذباب يأكل البعوض ولذلك فإنه قدم نفسه:"وليس يشفيني إلا المعاينة." لكن المعاينة إذا لم تتم ولم يتيسر بفعلها المنهج الاستقرائي التجأ الكاتب إلى الاستبطان وهو فعل لا يخلو من العمق بتعداد الأمثلة والأفكار لتفنيد فكرة عامة أو إثباتها. تصرف بذلك لإبطال الكلام في الخلق المركب وركز على ما تم زعمه حول سمك الشبوط. فانتهى إلى نفس ما أورده في المقدمة واستدعى لإثباته قصصا مروية عن بنت جعفر المنصور وعن شخصيات أخرى لم يطمئن إليها الجاحظ. وبذلك حسب المنهج الاستبطاني تحول من الموضوع العام المطروح حول الخلق المركب إلى الموضوع الخاص سمك الشبوط المادة المقلبة ليتم بعد تمحيصها استخلاص النتيجة المذكورة أولا:" فمن الباطل زعمهم أن الشبوط ولد الزجر من البني."

ما يهمنا في ما تم تقديمه أن الجاحظ طرق كل باب يحتاج إلى التجربة فتوقف عن البعض بسبب العجز ولكنه يستنهض الهمم لتتواصل التجربة ممن يأتي بعده ويكمل رسالته. ووفق في نقل الشك إلى محك التجربة لأنه وجد الفرص متاحة له ولأصحابه فعض عليها بالنواجذ وسار على المنهج التجريبي أو على المنهج الاستقرائي أو المنهج الاستبطاني. فإذا كان تعامله مع هذه المسائل الحسية الطبيعية الخاضعة إلى التجريب فكيف سيتعرض الجاحظ إلى المسائل الذهنية والقيمية التي يكثر حولها السجال والجدال؟

1-2   المنهج الحجاجي.

لا شك أن الحجاج هو الأسلوب الذي يسيطر على نصوص الجاحظ. حتى وهو يستند إلى التجربة كان يستبطن خطته الحجاجية. لا نتوارى أن ننسب إلى الجاحظ جميع الخصال العقلية لأنه يكتسبها حياة ومنهجا وفكرا بل نتصور أن انتماءه إلى الاعتزال قوي لأنه يلبي نداءه إلى تمجيد العقل والسير في أحكامه. يدعوه هذا الانتساب أن يحارب المنكرين للعقل سواء في سلوك العامة أو في إنتاج العلماء، كان يرد عليهم بالتجارب على الصغير كمثل البعوضة وعلى الكبير كمثل التفكير في الكون. ولم يترك في سبيل ذلك موضوعا لم يتطرق إليه في سلوك الإنسان وفي حياة الأجناس والألوان وفي دياناتهم وفي أفكارهم. لعله بالإضافة إلى أنه يشفي رغبة في نفسه، كان يمضي إلى ترسيخ فكرة تبعها فانقضت عليه. إنه قد بدأ يستمع إلى المعتزلة في البصرة فقربه أصحابها ورفعته مكانة بأن استدعاه الخليفة المأمون إلى بلاطه. وتحول مذهب المعتزلة إلى مذهب تتبناه الخلافة. فإذا المبادئ التي تبناها الجاحظ أصبح يدافع عنها لأنها فكرته وفكرة أصحابه وسياسة دولته. عاش مع هذه الفكرة لما بلغت قمتها وعرفت مجدها وواصل معها حتى انحدرت وضعفت في الوقت الذي ضعف ومرض. أليس من الغريب أن يلتقي مصير هذا الإنسان بالفكرة فيرتقيا معا ويصعد كلاهما بالآخر؟ وأن يرتبط سقوط أحدهما بثانيهما؟ ألم يكن الجاحظ يدرك هذه الصلة بينه وبين مذهبه؟ ألم يحدث الانصهار بينهما؟ أولم يعد يرى أن كل خطاباته إذا لم تنطق باسم العقل فهي ليست منه وليست من الاعتزال؟

إذن الجاحظ يكافح بالكلمة ويصلح بواسطتها ويغير ما يشاء لا بالعنف ولا بالسيف بل بواسطة ما اختاره العقل بما هو ألين وأرق ولكنه أشد الأثر بواسطة أداة العقل: أداة الحجاج.

2-2-1 صور الحجاج وأهدافه.

بنية الحجاج هي تلك البنية النمطية القائمة على سيرورتها بين الطرفين يتناقضان في المقال وفي الأفكار ليحصل بين كليهما السجال أو الجدال وقد يقلص من حضور المعارضين ليستولي على مساحة الكلام كما في جانب عرضه لما يفخر به السودان على البيضان حيث أنه استهل جزء قصيرا مما يقوله الناس ولما أخذ القول ب:"فقلنا لهم." إلى أن يستمر به الحديث حتى يعرض ما يريد قوله بتقليب نفس الحجة على أكثر من مضمون بين الصقالبة والروم وبين النساء والصغار... ولا يتراجع عن التقريع وعن التهجم ولم يورد في أثناء ذلك أي حجة للطرف المقابل.

هذه الغلبة لخطاب الكاتب على خطاب من يتبنون الأطروحة المناقضة تستبطن إنكار الجاحظ لمضمونها ومخالفته. فلا يتردد في التشدد عليهم والقسوة. والانفراد بالرأي نجده طبيعيا في مسائل أخرى تحمل أسلوبا تعليميا تفتتح بفعل الأمر:" اعلم" ومع هذه الحرية فإننا نقف على الأطروحات المبطنة التي تخالف جزئيا أو كليا ما يدافع عنه الجاحظ،  مثال ذلك ما رأيناه عندما يركز على أن امتزاج الخير بالشر يجلب المصلحة في الدنيا ردا على القول الذي يقصر المصلحة في الخير وحده. هذه المخالفة الجزئية تقترب منها الطريقة التعديلية في الحجاج، حيث لا نلاحظ الخلاف الكلي وإنما هناك جانب من الاتفاق وجانب آخر يستدعي عدم قبوله فينهض الجاحظ للتعبير عنه برأيه ويرده بقصد التعديل.هذا ما نلاحظه في الرأي حول حجة الأخبار وعلاقتها بالإعجاز: فهي معجزة عندما يكون مصدرها إلهيا. وغير ذلك فلا علاقة له بالإعجاز. فإذا بالجاحظ لا ينكر القول بهذا الرأي. بل يعدله ويذكر وجه الإعجاز فيه المتمثل في مجيء الخبر ونقله.

اهتم الجاحظ بالمواضيع العقلية والفكرية والبلاغية، وقصد إلى استغلالها عقليا، هدفه من وراء ذلك الإقناع وإحداث التأثير في المخاطب فهو يتبنى مذهبه الاعتزالي ويدعو إليه وينشر قضاياه فيثبت صحته، فترى مبادئ المذهب منتشرة في كتابته فإذا دافع عن السودان فإنه ينصفهم من الجهة الاجتماعية ولكنه يؤكد مقولة العدل الإلهي. وهو ركز على المصلحة في امتزاج الخير بالشر فإنه يؤكد على مقولة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة أي الحسن ما حسن في العقل والقبيح ما قبحه العقل على عكس ما يقوله المخالفون أن الحسن ما حسن في الشرع والقبيح ما قبحه الشرع. وغير ذلك حول بقية المبادئ التي كان يبثها الجاحظ في مساجلاته وجدالاته حول الوعد والوعيد، والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين يلتقي عند ذكرها الذاتي بالموضوعي لأن الجاحظ يلتزم شديد الالتزام بالمنهج العقلي وهو في ذات الوقت يصدر في تعبيره عن علاقته بالمذهب الاعتزالي فيتحمس ويبالغ ويتغلب الجانب الذاتي، لكنه بتحكم العقل لا ينطلق بعيدا في انتماءاته بل يتحكم في قيادتها بواسطة العقل فيعرف كيف يخفي الخاص بالعام: إذ كثيرا ما يخاطب قراءه بأسلوب تعليمي وهو يقصد تمكينهم من وسائل العلم والتفكير العقلي فيقتربون من مذهبه. ولذلك فإنه حرص أن يمتلك الأسلوب الذي يساعده على التبليغ.

2-2-2 أسلوب الجاحظ في الحجاج

لم تعد اللغة عند الجاحظ غاية، ورفض الصناعة والتكلف واشتغل عليها باعتبارها وسيلة تبليغ فلا نجد عنده السجع ولا الاستعارات ولا التراكيب التي تختص بالغموض حتى تكتشف المعاني وتعرف الألفاظ وكان يرى أن " على الأديب أن يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني." فلا يستخدم أسلوبا إلا وهو يحمله معناه فيعتمد الإطناب بكثرة لأنه يحتاج إلى التعبير عن الأفكار ويثير الاستفهام لإنكار أفكار أو استبعادها ويكثر من الازدواج والموازنات والتوليد اللغوي لأنه يكثر من القضايا المنطقية وقياساته ومقارناته : كل كريم ذوعقل

                                                     السودان أسخياء

                                                     إذن السودان ذوو عقل

ومثل هذا في القياس ما ذكر في القرآن من تعليم سليمان منطق الطير وما عرف عن إسماعيل أن الله علمه منطق العرب فكان ذلك إثباتا أن هناك منطقا للطير. أمام هذه الأساليب حيث الإطناب والتوليد والتراكيب العقلية وأساليبها كان الجاحظ ينوع في أساليب الربط فيتجه إلى الاستدراك  بألفاظه وإلى الاستنتاج بوسائله ويميل إلى المقابلة بألفاظها...( انظر الجدول في الكتاب المدرسي ص 146)

  

 

نزار الديماسي

                          مدير معهد بني حسان