الثلاثاء، 29 يناير 2013



تحليل نص" المقامة الموصلية للهمذاني"


للدين وقع في النفوس ، و رجع في القلوب. يعمل به الجاهلُ ، و يتقفاه العارف. منزه : يصمد أمام الخلاف ، ويصعبُ
عن الإرجاف. لا تملكه الألسنة و يملكها، تخشع له الأبصار و الفوائد، و تهتزّ له الأمالي ، و تحث إليه الأماني. ارتاضت على تقديسه الحركات و على تسبيحه الكلماتُ. و ما ظننا أن يهم عاقل بتحديه و لا سائح هو متعديه، بدافع الخسارة أو لإظهار المهارة كالذي صدر في المقامة الموصلية من أبي الفتح الإسكندري و عيسى بن هشام حين استخدما الدين للتحيل على جمعين سذجين يسترجعان ما فقدهما من مال استولى عليه قطاع الطرق.
فماذا بين أبي الفتح و بين عيسى بن هشام و ماذا بينهما و بين قطاع الطرق؟ و إلام أدى بهما تحول حالهما من الغنى إلى الفقر؟ و هل نبرر ما صدر منهما تجاه أهل الميت ثم تجاه أهل القرية بتحول حالهما و تأزمها؟ و ما البديل لهما إذا لم يجدا غير ما أتياه حلا؟
المقامة قصة مركبة : حدث يفضي فيها إلى حدث و مكان يفـــــــــتح على مكان و أسباب على نتائج و وقائع بطلــاها مــــن
المغلوبين مرة و من الغالبين مرة أخرى. لم نلحظ فيها رجاحة عقل ، و لم نستقبل فعلا للخير بل شر يتبعه شر و اعتداء يتلوه اعتداء. فهل استحال الإنسان عدوا للإنسان؟
يبدو أن المقامة الموصلية تلتقي مع غيرها من المقامات في افتتاحها بحدث يدل على الحركة بعد إتمام الرحلة و قرار العودة, من الموصل إلى المنزل على مسافة ممتدة تشق طريق القوافل بين الصحاري و الفلوات. تلقي لعبورها المشقة و العنت على أصحابها من اختاروا الصحبة و مالوا إلى الرفقة تجنبا للسطو و درءَ للخطر غير أن الحذر و الانتباه لا يجزيان و لا ينفعان مادام في زاد المسافرين طمع و في قافلة الآيبين روع. إن العائدين في النص جماعات يزدادون قوة تعينهم كثرتهم ليتصدوا إلى المغامرين بمداهمتهم و العاملين على إرهابهم...و لا ينظرون إلى أن من يخشونهم إنما هم مجهولون و لا يتجرؤون عليهم إلا إذا تيقنوا من ضعفهم و لمسوا القدرة على استهلاك ما يحملونه باللين أو القوة لاعتبار أن قدرة المستولي في الغالب فوق قدرة المستولى عليه. وهو ما كان مع قافلة عيسى بن هشام و صحبه حينما أغار عليهم القطاع للطرق و نهبوا منهم الغنائم و أخذوا منهم المحمول باليسر الذي تعكسه الجمل الخبرية البسيطة المعبرة عن السرعة في إتمام المهمة:" لما قفلنا من الموصل و هممنا بالمنزل وملكت علينا القافلة و أخذ منا الرحل و الراحلة جرت بي الحشاشة إلى بعض قراها."  تروى أحداث السلب بسرعة بجمل قصيرة حتى تعكس ما أصاب التجار على الأغلب من سهولة ما تعرضوا إليه و ما أصبحوا عليه مباشرة: لقد انقلبوا في خطفة من الوقت إلى معدمين وقد كانوا قبل حين من الملاك و من الحافظين لأرزاقهم. لقد غاب عنهم ما كانوا يكسبون أو زال عنهم : ما بذنب اقترفوه و لا بخطإ ارتكبوه. إن ما أصابهم بسبب فقدان للأمن و انتشار للرعب و انتهاك لراحة الغير وامتهان للخطف و السلب واستباحة لما بيد الآخر و عدم احتساب لمضمون الأعراف و الأخلاق و القيم و قبول بهتك الأعراض و سماح بنسف الأصول والعادات: فلا جوار و لا حماية و لا كرم و لا عطف لا بقاء إلا للشحناء و البغضاء و طمس الأخوة و المعونة. بذلك يضعف أبو الفتح الإسكندري و عيسى بن هشام و يغرق كلاهما في تجربة جديدة ما اعتبراها و لا تصوراها بل كانا يمنيان نفسيهما بالعودة إلى المنزل فإذا بهما في فقر يبحثان عن حل لهما فإلام سيؤول إليه وضعهما بعدما كانا في الغنى؟ 
ماذا طلب بديع الزمان الهمذاني من البداية؟ و ماذا أراد من المقدمة؟
قد صور لنا شخصين معدمين لم تبق لهما غير الحشاشة، و لا أمل لهما غير الحيلة. فكفت السبل من أمامهم و ضاعت بهم الطريق. هل كانا يضيعان لو بقي الزمان في الماضي؟ هل يقنطان من الرحمة؟ هل يفقدان الصلة بالمسلمين من يدعوهم دينهم إلى سد حاجة الملهوف ، و شد أزر المضرور، و الأخذ بيد المقهور ، و إعانة عابر السبيل؟
لم تساعد بلاغة الصورة الراوي على الاسترسال في التعبير اللغوي و اكتفى بالجملة الخفيفة لفظا و لكنها العميقة صورة تتأدى من حوار قصير جدا:" فقلت : أين نحن من الحيلة؟ فقال يكفي." و تغير الكلام ليصبح سردا لا حوارا في حين أن المقام يستدعي الشكوى و الحيرة و البكاء على المفقود و الخوف من المجهول. وننتظر نقاشا و فضفضة و نترقب أسئلة و أجوبة تنعكس لها جميعا حالات الرفيقين المأزومين: المصابين في أموالهما و أمنهما لأن ما فقداه ليس بالهين. فلماذا قطع الراوي الحوار لينشر السرد بعده؟
هل نقبل أن الصديقين قد عجزا عن التعبير و اكتفيا بما قاله أبو الفتح الاسكندري " يكفي الله " لينتظرا رحمة ربهما، و خيره عليهما؟ هل وردت الإجابة لتقنعهما بأن الفرج لآت عما قريب؟ هل يصنع الإيمان بالله الصبر المفهوم من العبارة؟ و هل يمكن لمن يفقد ماله و رزقه و تجارته و حياته أن يستمر على هدوء كليهما فلا يزيد عما قالاه شيئا؟
مازلنا لم نتعرف على الشخصيتين و لم نتبين ما مدى استيعابيهما لمصابهما الجليل، و لم نحظ بالإشارة القريبة أو البعيدة لما يكون في المستقبل، لأن الظرف جد عصيب و قد يحيل بدوره على مفترقات عديدة تتحول بالوضع أمام كثرتها إلى غامض هو في حكم الغيب لا تصلح معه غير عبارة : "يكفي الله " يرددها جميع من يعيش ذات الموقف حتى و إن لم يشعر بها، و نردد أمثالها عبارات تجري في الأزمات من مثل:" الله غالب ، تلك إرادة الله و مشيئته، يفعل الله ما يريد ...." سكنت نفس العبارات وجداننا وحكمته غير أننا نرددها حينما نعجز عن الكلام و حينما تنسد أمامنا العبارات كما في حال البطلين في المقامة أحدهما أطلق سؤالا يدل على العجز و ثانيهما يستند إلى خطاب ديني يقال عند العجز و كأن لسان حالهما يقول : قد فقدنا كل ما نملك فقدنا حتى الكلام و أضعنا الاتزان و ما بلغناه لا حل له إلا وفق ما أراد الله بل يعجز كلانا عن المواجهة و عن التحدي لأن طاقة البشر ضعيفة أمامه و لا قدرة فوق قدرة الله، فليُترك الأمر كله لله ولنمض إلى سبيلنا.
عبر الحوار القصير إذن عن واقعية الأحداث و عن الواقعية النفسية لأشخاص يمرون ينفس الوضع الشديد حيث لا نفع للكلام و لا جدوى من الحديث. و لا بركة إلا في الحركة و المضي إلى الأمام قدما لأن الحيل و الحلول ليسا في الأحزان و ليسا في البكاء على الأطلال بل في السعي و في الحركة فماذا تخبئ الاستمرارية في الحركة و في الرحلة لهذين المنكوبين؟
لعل هذا النص ينطق برحلة الإنسان مع الأقدار و مع النكبات، و بفعله مع حدوثها و مع قيامها. و ردة فعله إذا أصابته: خشوعا وصبرا أو انزعاجا و رفضا، نلاحظ أن أبا الفتح الاسكندري و رفيقه عيسى بن هشام لم تتوقف رحلتهما بل اتخذت منعرجا جديدا مغايرا لما بدت أنها تسير عليه حصل فيها تحول من درجة مخالفة انقلبت من المعلوم إلى المجهول  و من رحلة البحث عن الربح إلى رحلة البحث عن الرزق و من حذرهما من المحتال إلى تفكيرهما في الاحتيال.
ثنائيات و سلاسل منها تكاد لا تُمْحى من المقامات قد تعكس واقع الحياة بين صراع الخير و الشر أو بين المعتدي و المعتدى عليه أو بين المنتصر و المهزوم...و بين الحياة و الموت السكون القادم في المقامة بين أيدينا.
تقام بنية المقامة علة أكثر من حركة و أكثر من بنية و سلسلة نحصيها جميعا في بعض الأمثلة.
× بنية النكبات و الأقدار: نكبة السلب و النهب + قدر الموت + نكبة الطرد و الضرب + قدر الخوف + نكبة القرية
× بنية الحركة و السكون : حركة الإقفال + سكون النهب + حركة البحث + سكون الحيلة + حركة الهروب + سكون الحيلة + حركة الهروب
× بنية التعرف: قبل التعرف على الاسكندري + صحبة الاسكندري
× مقام التحول بين الغنى و الفقر + مقال  العجز + مقام الموت + مقال الحيلة + مقام العقاب + مقام الخوف + مقال الحيلة + مقام الهرب و الظفر.
× البنية المركبة : قصة النهب + قصة البطلين مع أهل الميت + قصة البطلين مع أهل القرية.
× بنية الشخصيتين : زاهيتين بالتجارة + محبطتين بالسلب + زاهيتين بالحل + محبطتين بالعقاب + مزهوتين بأزمة القرية + راضيتين بالصيد.
× بنية العدد : جمع ( تجار و قطاع الطرق )+ ثنائي البطلان+ جمع الميت و أهله + عودة إلى الثنائي + جمع أهل القرية + عودة إلى الثنائي.
كل البنى تعكس دورة الحياة و المجتمع و النفس الإنسانية حيث لا استقرار على حال و لا امتداد على طرف و لا انتشار على مكان واحد و لا مقام. فيها المراوحة و المزاوجة، فيها المداولة و المهادنة. فيها الضعف و القوة ، فيها البلاهة و الفطنة. هي حضن لثنائيات الحياة و اقتحام إلى ميادين الكلام، و اجتراء على حرمات النفس و قداسة الأماكن. اهتدى الراوي بالأشكال المثارة إلى التقاط نظم العلاقات بين الغرباء على أكثر من موقع ، و على عديد الأوجه.
حين المداهمة
حين الادعاء بإحياء الميت
حين الادعاء برد المكروه
علاقة اعتداء و عدم أمن صاحب المال
علاقة التجار بالقطاع : هدفها المال
ضعف التجار و قوة المعتدين بغير حق
الميتم: مقام يتعارض مع نوايا التحيل
علاقة البطلين بالأهل : علاقة الفريسة
استغلال نفسية الحزن و انتهاك للحرمات
القرية : التهديد الطبيعي و خوف الأهل
علاقتهما بهم علاقة الفريسة من جديد
استغلال الدين للكسب و استرجاء حق مسلوب
ما طرح تتبع  لوضعية ليست فريدة في العصر العباسي و تنوير بواسطة الأدب يتعرض إلى بعض الأسباب لانتشار الفساد حيث يتضح أن البطلين إذا اعتديا على الأبرياء فإنهما بريئان سابقان تعرضا إلى السلب فاضطرا إلى الوقوع في ممارسات خارجة عن أصول الأخلاق و مبادئ الدين و كأن الظلم يجر إلى الظلم و النهب يهدي إلى النهب. و الحال أن الالتزام بالقيم و الأخلاق و الدين بحفظها جميعا تحصين للمجتمع و حماية له من مظاهر التجاوز و إفساد الأحوال حيث يستند العربي إلى أن أحدهم غريب فيعمل على تضييعه و الاعتداء عليه و إفراغه مما يملك و الاستحواذ على مصطحباته. فنستغرب أن ذلك يقع في أراض عربية كان شعراؤها يفتخرون بمعونتهم للغريب و يترقبون العابرين لأداء واجب الكرم و إياهم و الاستعداد للذود عن المستجير مهما كان انتماؤه. وحسبما كانت العلاقة بقبيلته. لقد ساد العنف و اتخذ العرب الغزو لاستمرارهم لكنهم لم يتخلوا أبدا عن قيم عاشوا بها و كان في ظلها يجد الفرد ملاذه و مأمنه. لا يخشى تحت ظروف مختلفة الأخطار و التهديدات. لكن الصورة المقدمة عن العربي في المقامة تعكس تحولا كبيرا أصاب قيمه و أخلاقه و دينه. ثم أمنه و عرضه و ماله و حياته فيتميز بذلك مدى التلازم بين القيم وسلم الأفراد و المجموعات. لكننا نلاحظ أن تدهور الواقع و تخلفه قد واكبه ارقاء في العبارة و اللفظ نقدر أن الكاتب يستخدمه للغايات التعليمية.
اعتمد الكاتب في اللغة أسلوب الانتقاء و تنميق الكتابة، و حرص على انسياب التعبير باتباع نظام من القص يخلو من أدوات الوصل و أسماء الإشارة و ألفاظ الربط. و لم تستمل بديع الزمان الهمذاني الألفاظ الغريبة و العبارات الحوشية فبدت المقامة مفهومة واضحة الأحداث. إنما يميزها السجع المكثف و  الخفيف على السمع فيه إحداث للإيقاع و دفع للموسيقى. لا نلحظ مع كثافتها تصنعا للسجع و تكلفا لتأليفه إلا من استثناءات. نتأكد في غالبها أن المعنى طلبها و ليس استعمال السجع فرضها كما هو الحال في أمثلة:" قدمات صاحبها و قامت نوادبها" و " قد نشرن شعورهن يضربن صدورهن". إن سعي الكاتب إلى التنميق دفعه إلى المزاوجة بين السجع و الكناية في جمل متتالية يقول عيسى بن هشام متحدثا عن دخول أبي الفتح الإسكندري إلى دار الميت:" و دخل  الدار لينظر إلى الميت و قد شدت عصابته لينقل، و سخن ماؤه ليغسل و هيئ تابوته ليحمل وخيطت أثوابه ليكفن، و حفرت حفرته ليدفن." لكن نلاحظ أن الكنايات استعملها الكاتبُ و لم يجهد القارئ لمعرفة المعنى غير المباشر المذكور في الغايات من الأفعال المعتمدة لتهيئة الميت و شد عصابته و تسخين مائه و حفر حفرته. فنقول هنا إن البعد التعليمي قد غلب على الكاتب فحرص أساسا على اعتماد الأسلوب خاليا من التعقيد و من التأويل و لا يفقده في نفس الأوان جماليته وحسن عبارته الحاصلة كما ذكرنا في الجمع بين الكناية و السجع و حتى المفعول لأجله حيث صور لنا الراوي أن أبا الفتح الاسكندري قد عطل عملا عاجلا و حاصلا كان سيؤديه أهل الميت بإكرامه و دفنه و احتال عليهم مستغلا حسرتهم على فقدانه و جزعهم من فراقه فصدقوا بسرعة ما زعمه لهم و قبلوا دليله مع ضعفه. فكان السجع بتلاحق ألفاظه و تراكيبه ساعد على التصوير و الوصف حين وضح صورة النساء و حزنهن ثم صورة الإعداد لدفن الميت و انتشار الخبر بين الجميع و تقديمهم المال و الذهب و الطعام للدجال الجديد الظاهر فجأة. لم يساعد السجع على الوصف بل إنه أداة لتحريك السرد و التقدم بالأحداث لما تختص به بنية السجع قليلة الألفاظ و كثيفة المعاني فينتج عن ذلك عدم إطالة في الحوار و تركيز على الأحداث فنصل بسرعة نحو كشفها و إبرازها مثلما تم في الحادثتين حين فشل البطلان في تنفيذ خطتهما للهروب و بعدها في تلبية رغبة أهل الميت لينالا العقاب غير ان كليهما لا يتراجع عن مساره و يظل مسكونا بالمحاولة و لو بقي مهددا بأشد العقاب بل نرى أن أبا الفتح الإسكندري يخاطب أهل القرية و يدعوهم إلى قتله لو لم يرد عنهم الخطر يقول :" اذبحوا في مجرى هذا الماء بقرة صفراء، و أتوني بجارية عذراء، وصلوا خلفي ركعتين يثن الله عنكم عنان هذا الماء إلى هذه الصحراء، فإن لم ينثن الماء فدمي عليكم حلال، قالوا نفعل ذلك." يتضح ما في هذا المقطع من اعتماد للأسلوب القرآني يذكر بالحوار بين موسى و قومه حين دعاهم ان يذبحوا بقرة صفراء لاشية فيها فنتبين أن الهمذاني يستفيد من ثقافة عصره و يقتبس من آدابه و نصوصه المشهورة لتعتبر عنده رافدا للكتابة و تمثل مصدرا من مصادر القص و الخيال.
لا يقف دور السجع في تسهيل الوصف و تسريع السرد و الحوار بل إن له دورا مساعدا في إثارة الهزل كما في الأحداث المذكورة لتنفيذ أبي الفتح الاسكندري خطته عندما يقول الراوي:" و قام للركعة الأولى فانتصب انتصاب الجذع حتى شكوا وجع الضلع وسجد حتى ظنوا أنه قد هجد ولم يشجعوا لرفع الرؤوس، ثم عاد إلى السجدة الثانية و أومأ إلي فأخذنا الوادي وتركنا القوم ساجدين لا نعلم ما صنع الدهر بهم." استخدم الراوي السجع و قدم مشهدا يغلب عليه الهزل تمثل في اختراع شروط شديدة في الالتزام بالخشوع و الصبر على السجود بما يحيل على صلاة النبي في قيامه الليل حيث كان يصلي ركعتين بقراءة سورة البقرة و آل عمران و حيث كان يطيل السجود حتى أن عائشة أم المؤمنين ظنت في مرة قد قضي فاقتربت منه و لمست إصبعه لتتثبت فهل يصلح ان تستغل هذه المصادر الدينية للإضحاك و بناء الهزل في النص او المقامة؟
إن ما يميز المقامة الموصلية انها غنية بمصادرها الثقافية من الحضارة العربية الإسلامية: تأخذ من القرآن و من السيرة النبوية ومن عادات العرب وحياتهم في عصر الهمذاني الذي أتقن استغلال اللغة و الكتابة مستخدما السجع لأداء وظائف فنية و قصصية فراينا أنه خدم الوصف و التصوير كما خدم السرد والحوار و ساعد على إقامة الهزل في النص، ليبدو الضحك من أحداث ومن وقائع انتشرت في القرن الرابع و ثبتت و لكنها لا ترقى إلى مراتب الاحترام و التقبل مادامت تنبني أساسا على الاستهانة بكل مقدس انطلاقا من شرف الإنسان و ماله و عرقه و عبورا إلى حرمة الميت و آداب معاملته و وصولا و انتهاء باستغلال الصلاة و نكبة الناس و رعبهم. لكن المشاعر الإيمانية قد تجد في استخدام الدين بالصورة المعتمدة ما يتنافى مع قدرتها على الاستيعاب وتحمل ثقلها باعتبار مكانة الدين في نفوس المسلمين و عدم تقبل الذائقة لذلك الاستهتار بالمنازع الدينية حتى و غن وردت بغاية النقد والإصلاح.
المقامة الموصلية لم تخل من الطرافة ومن إثارة لقضايا ذات صلة بالدين و سلوك المسلمين في ذلك العصر لاستغلاله من أجل خدمة مصالح ذاتية قدمها الهمذاني بلغة انتقائية اجتمع فيها السجع و الكناية حينا و السجع و التشبيه حينا آخر فكيف يظهر استخدام السجع مصحوبا بأساليب بلاغية غير الكناية كالاستعارة و المقابلة و الطباق؟

الجمعة، 25 يناير 2013

                                        شهادة خزيمة ...الدّلالة والغاية ؟ 

لماذا إثارة السّؤال ؟ ومن خزيمة هذا ؟لا يظنّ أحد أنّ خزيمة امرأة كما توهّم محاوري..إنّ خزيمة صحابيّ جليل القدر حضر خصومة اختلقها يهوديّ بغاية امتحان صدق النّبوّة المحمّديّة ..وهذا موقف يحمد لليهوديّ لأنّه لم يكفر بمحمّد عليه أزكى سلام بغضا وتعصّبا ولا آمن به تسليما وغفلة وتقليدا..إنّه توثّق لدينه وعقيدته وهذا واجب على كلّ عاقل وليس أدلّ على ذلك من موقف الرّسول إبراهيم عليه السّلام فإنّه تجرّأ وسأل ربّه كيف تحيي الموتى؟ وحكا القرآن الحدث فقال" وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا واعلم أنّ الله عزيز حكيم" البقرة 260.إنّ الله لم يلم إبراهيم عليه السّلام عن السّؤال بل أرشده وأشركه في بناء الإجابة المطمئنة وهنا حريّ بنا أن نتخلّق بخلق إبراهيم فنسأل لنعلم وتطمئنّ القلوب والعقول وأن نتّصف بصفات الله فنجيب المتعلّم بتشريكه في بناء الجواب ولا نمنع السّؤال أو نملي الإجابة.. عمد هذا اليهوديّ قبل أن يسلم إلى إثارة غضب النّبي وهو يعلم حلم النّبوّة وكضم غيظهم ومسك به من ثوبه قائلا " إنّكم بنو المطّلب قوم مطل" أي تماطلون في ردّ الدّيون إلى أصحابها في مواعيدها ..غضب الصّحابة وأشّدهم عمر رضي الله عنه وهمّ باليهوديّ فنطق النّبيّ الرّحمة بحكمة الحليم فقال لعمر والنّاس خلّو بيني وبينه وهدّأ روع وخوف اليهودي وراجعه بالحسنى فجثا اليهوديّ وقال " كنت أرى فيك دلالات النّبوّة فأردتّ اختبار حلمك فصدق.. أشهد أنّك لنبيّ الله" وأعلن إسلامه.. أمّا خزيمة فإنّه حين رأى شدّة اليهودي وفقدان النّبي الحجّة على أنّ اليهوديّ أخلف العهد والموعد مع القطع واليقين بصدق رسول الله قام وقال أنا أشهد لك يا رسول الله ..قال الرسّول كيف ولم تحضر؟ ولم تشهد؟ قال " يا رسول الله تخبرنا عن أنباء السّماء ( أي الوحي والجنّة والنّار...) ونصدّقك فكيف لا نصدّقك في أمر الدّنيا " فاستبشر رسول الله لشهادة خزيمة رضي الله عنه.. هذه الشّهادة أثارت كامنا في صدري ..و الآن أفضحه...أليست الشّهادة تستمدّ شرفها من شرف حفظ الحقوق من الضّياع ؟ ولذلك أشركت الشّريعة الإسلاميّة المرأة في الشّهادة على الدّيون وليس في ذلك قصر نظر على الجنس وإنّما هو توسعة على النّاس وتعميم على النّوع ذكورا وإناثا قصد صيانة الحقّ من الضّياع فإثبات الحقّ مقصد والشّهادة وسيلة والوسيلة تستمدّ شرفها من شرف المقصد فلمّا كان حفظ الأموال وتنفيذ العقود من مقاصد الشّريعة ومن التّكاليف الواردة أمرا لا تخييرا لدلالة قوله تعالى " يا أيّها الذّين آمنوا أوفوا بالعقود " المائدة1.و ليس أدلّ عندي من تصدّر هذه السوّرة بهذا التّكليف بل إنّ العقود الواردة بعد ذلك في ذات السّورة مفصّلة أجملتها بدايتها فهذا قرع للذّهن والقلب حتّى نعقل ...فإن انتبهنا لهذا وجب أن لا نبخس قدر شهادة المرأة ونزعم أنّها نصف شهادة الرّجل بل إنّ الأنكى القول" المرأة نصف رجل" ...يا لسوء التّعبير وفساد العقيدة ... وأريد أن أختم بإلماع ومضة أخرى ...شهادة الصّبي أو الرّجل ليوسف عليه السّلام بالبراءة من تهمة التّحرّش الجنسي والفصل في القضيّة والحكم لفائدة يوسف وإدانة امرأة العزيز"زليخة" ألم تكن قضيّة رأي عام " امرأة العزيز تراود فتاها"؟ ..لقد فصل فيها شخص واحد وأعتقد أنّه القاضي الخاصّ بالقصر و لا أظنّه إلاّ عميد القضاة لأنّه يختصّ بقضّية العصر والقصر...واعتمد قرينة فقط... لم ينكر أحد من أهل العلم ولا الدّين ولا القضاء حكم هذا القاضي ولا أنكر الرّسول محمّدا قضاء خزيمة ولا ردّ اليهوديّ شهادته ولا ردّ زكيّ نفس وراجح عقل نسب نسله إليه وهي شهادة زوجته...امرأة واحدة...أليس كذلك ؟؟
                                                                 أبو يوسف البشير العبّاسي

السبت، 12 يناير 2013

صمت الولي وصيحة الوزارة أخيرا فاضت الكأس و صاحت الوزارة ونطق مديرو المعاهد و الإعداديّات ونطقت وسائل الإعلام وصرّحت التّلفزات بغول المخدّرات والزّطلة و لكن كيف نمنع استمرار الكارثة وكيف نكفّ ونمنع الأيادي الآثمة من اختطاف الطفولة وإفساد العقل و اختراق سياج المناعة .مناعة عقل المستقبل وسلامة جسد الدّولة . لقد سبق منّي القول بأنّ واجب الإصلاح التّربوي يبدأ من المعمار فلا بدّ من سياج يحمي ثرواتنا البشريّة والمعماريّة لأنّ الخراب المادّي و قصر سياج المعاهد والإعداديّات ينسف مناعتها نسفا فصارت تتخطّى أسوارها وتروّج "الزّطلة " و يتموقعون أمام المؤسّسة التّربويّة ومن حولها وهذا من شأن رجال الأمن وأمّا داخلها فذلك يبدأ من باب مدخل التّلاميذ ولذلك نحتاج وبكلّ الوضوح إلى تكوين تربويّ لحرّاس مداخل المؤسّسات بحيث لا يسمح بدخول ساحات المعهد لأيّ كان مهما كانت الأعذار فدخول المواطنين يكون أبدا من باب المعهد وكانت تجربة بلزوم الاستظهار ببطاقة التّعريف الوطنيّة وضبط موضع الزّيارة قصد التّحرّي عند الضرورة. فإذا أمّنّا محيط المؤسّسة تحوّلنا إلى واجب حماية التّلميذ ولا يتحقّق ذلك إلاّ بأمرين أساسيّين لا يتفاضلان :الأوّل منع المدرّس من إخراج التّلميذ من القاعة إلاّ لضرورة قصوى جدّا وبمصاحبة قيّم أو القيّم العام أو السيّد مدير المؤسّسة و يلحق بقاعة المراجعة وهنا وجبت المسألة الثّانية انتداب العدد الكافي من القيّمين لمساعدة التّلميذ وصيانة المؤسّسة ولنا القدرة على ذلك أمام وفرة عدد المعطّلين من المجازين فلو صنّا المؤسّسة نكون حقّقنا هدفين ساميين الأوّل حماية التّلميذ والمؤسّسة معا والثّاني الحدّ من البطالة وإن كان غاليا ومكلفا مادّيا فإنّ ثماره أغلى وأنفس وأجدى وأبقى فبناء تونس وتيسير المستقبل أهمّ من الكلفة بل إنّ كلفة التّشغيل و تأمين التّلميذ أنفس من الإنفاق غدا من أجل صحّة التّلميذ طاقة الإنتاج غدا فأيّ النّفقتين أجدى حماية التّلميذ وتشغيل حملة الشّهائد أم الإنفاق على الدّواء بعد تدمير صحّة التّلميذ قوّة الغد ؟؟ إنّ الإنفاق على متانة المعمار التّدريسي تمتين لسلامة التّكوين و البذل على الانتدابات استثمار في القدرات وصنع الكفاءات ونحن نعلم أنّ الاستثمار في العقل أجدى وأنفع فلا يظنّ سياسيّ واحد أنّ تمتين المستقبل يكون مع خفض الإنفاق على التّعليم ولعلّ أقبح خطإ وقعنا فيه تخفيض ميزانيّة التّربية وكانت من قبل في حدود الثّلث (ثلاثون بالمائة) ونحن ثمرة ذلك الاستثمار فلمّا خفّضنا ماذا حصل ؟ لقد تكثّفت المؤسّسات الخاصّة وتحوّلت من مؤسّسة لصناعة العقل والكفاءات إلى مؤسّسات تجاريّة بل ومحاضن للتّلميذ أمام غياب الأب والأم وانخراطهم في العمل وعدم القدرة على المتابعة والتّفقّد والتّعهّد وماذا بعد ؟ لقد حضر الدّينار وغابت المتابعة وماذا بعد؟ لقد وجد تجّار المخدّرات في غياب العائلة المتابعة والمؤسّسة الحاضنة الفرصة جدّ متاحة للتّجارة السّهلة وربّما ساهمت غفلة القاصرين في هدم وتدمير قدرات المستقبل . لذلك أشرت في البدء إلى توسعة معمارنا حتّى يقدر على حضانة التّلميذ أثناء ساعات الفراغ وأكّدتّ على إدماج أصحاب الشّهادات في بناء وحماية المؤسّسات التّربويّة وأن يلتزم المدرّسون بصيانة التّلميذ وتوجيهه بدل الانفعال وإقصائه خارج قاعة الدّرس وحصن المؤسّسة ثمّ لنا أن نعزّز هذا برجال التّربية وعلماء النّفس ورجال الصحّة المدرسيّة والمسرحيّين وعلماء الدّين والفنّانين رسما ومسرحا وموسيقى وعلى قدر التّوسعة والمشاركة الجماعيّة على قدر الحماية والنّجاح .. أمّا ظهور المهرّجين المنادين بتحرير الزّطلة واحترام رغبة المستهلك بدعوى الحريّة الشّخصيّة و تقليد الدّول "الرّاقية" فهذا ما يجب التّصدّي له بالقانون .. وأختم بالتّوكيد على واجب التكتّم على أسماء التّلاميذ حتّى يقع العلاج والإصلاح في كنف الاحترام وعلى الأسرة المتابعة وحسن العلاج وعلى الإدارة حسن السّمع والمتابعة حتّى ننقذ فلذات أكبادنا وآمال مستقبلنا ...أسأل دائما ....أليس كذلك ؟؟ 
                                                                                              أبو يوسف البشير العبّاسي