السبت، 29 ديسمبر 2012



شرح نص : إني ذكرتك بالزهراء...
المقدمة 1 :الإنسان يلتجئ إلى الطبيعة حتى يتخلص من حالات تصيبه تؤثر فيه فينشرح و يزهو لكن ابن زيدون بمناسبة قصيدته  في غرض الغزل" إني ذكرتك ..." يؤثر فيها وهومن اضطربت حياته بعدما تعرض له في تجربته السياسية من جهة و في حبه لولادة من جهة اخرى. يتعرض في القصيدة إلى الموقع حيث يوجد فيمزجه بحالته مرة و يتذكر ما كان يجمعه فيه من لهو مع ولادة مرة أخرى ليقتصر في النهاية على حبيبته يشكوها و يرفع مقامها و يستعطفها. نتبين مما تقدم أن تحليلنا للنص نحتاج أن نبرز فيه أي علاقة تبدو بين وصف الطبيعة و التذكر للحبيبة ، و أي خاصية للمكان حتى يتحول إلى تلك الصلة القوية تجمعه بالشاعر و نبرر في ختام التحليل ما ظهر من تحول في الموصوفات بين العناصر الطبيعية و علاقة ابن زيدون بولادة.
المقدمة 2 : ما الشعر إلا لوحة يقتصها صاحبها من طبيعة نفسه  يفكك فيها ما انحبس ، و يطلق ما اعتصر ، إنه عصفور يغرد أغنياته بما يلمح و يزهو بما يشاهد كابن زيدون في قصيدته الغزلية " إني ذكرتك بالزهراء ..." ينشدها بعد فراره من سجن بني جهور متذكرا في المكان الرائق لهوه مع ولادة و يجدد إخلاصه لها مستعطفا إياها من أجل الوصال.
فأي علاقة بين المكان الرائق التعرض إلى ولادة في الحبيبة في نفس القصيدة ؟ و ما دور المشاهد الطبيعية الطبيعية  في إثارة مشاعر ابن زيدون الحزينة رغم ما يلفه من لحافات للجمال؟ و ما دلالة أن يقصي من ذهنه صور الطبيعة ليقتصر خطابه على ولادة وحدها؟
تنقسم القصيدة الخالصة لغرض الغزل حتى وهي متضمنة لصور من المكان الطبيعي إلى وحدتين نميزهما حسب معيار الخطاب : غير مباشر و مباشر.
..................................................................................
في الوحدة الأولى الممتدة إلى البيت التاسع ينقل لنا جمال المكان المشارك له في أحزانه بعد أن شاركه في الماضي لهوه مع ولادة. أما الوحدة الثانية فهي على باقي القصيدة: هنا الشاعر يصرف اهتمامه إلى ولادة محبا و شاكيا و مستعطفا.
نلاحظ عند تقسيم النص أن ابن زيدون اتبع في بناء نصه طريقة يعتمد فيها التدرج و التحول بين موضوعين أساسيين بدأ بواحد و استدعى له الثاني فجمعهما ليخلص في النهاية إلى موضوع واحد . و لانظن أن ذلك
تم اعتباطا بل من ورائه مقصد نحاول أن نفهمه معتمدين القياس على أمثلة لها نفس التمشي. لنفهم أولا ما في القصيدة : قد انطلق الشاعر في القصيدة بوصف الطبيعة دون غيرها بعد فعل التذكر ، ثم يستدعي ماضيه مع ولادة فيتحقق بذلك المزج بين الطبيعة و ولادة ولكن استمراره في التذكر يلغي الأول و يبقي على الثاني ليظل وحده في الخطاب فعلام يدل ذلك؟
نعتبر نحن أن الإعجاب بالجمال هو مصدر الوصف و مادام الشاعر في قصيدته قد تحول من جميل إلى جميل فهو يحكي ما في قلبه إنه يتدرج من الطبيعة الجميلة إلى ولادة الأجمل و لو أنها جزء من ذلك الكل و نقيس على ذلك القلائد و الأسورة ... المتخذة لقيمتها و لإبداعها من أصلها و من مادتها الأولية سبائك الذهب بل إننا نعتبر هذه الأجزاء أجمل من الكل كولادة فكان حضورها سببا في إلغاء ما هو دونها في كون القصيدة كما يلغي شروق الشمس في النهار أي ظهور للقمر لأنه أقل إشراقا كالطبيعة أقل إشراقا في قلب الشاعر.
للعوامل التي ذكرنا نقول إن القصيدة في غرض الغزل بحكم أن وصف الطبيعة لا ينقل لذاته و إنما ليعرفنا بمقام ولادة فنجد نحن المبرر أن يظل ابن زيدون على ارتباطه بها رغم ما يلاقيه منها من جهة و الظروف القهرية التي أبعدنه عنها من جهة أخرى.
هكذا يتفق ابن زيدون مع غيره من الشعراء الغزليين عندما يعملون على الارتقاء بصور حبيباتهم لعلهم يوفقون في إقناع المتقبل بمشروعية أن يحافظوا على ودهم لهن و إصرارهم على تجاوز التحديات برغم ما يجدونه من ذل في تجاربهم فأين تظهر ظلال ذلك فيما سيظهر لنا تجربته في قصيدته بي أيدينا؟
مازلنا للإجابة عن السؤال متناولين لبنية القصيدة لكننا ننتقل هنا من البنية المخصوصة إلى البنية المتأثرة بالسنن الشعرية الموروثة . البداية واضح تأثرها بالاستهلالات في الشعر التقليدي ، يظهر ذلك من البيت الأول:             
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا |||و الأفق طلق و مرأى الأرض قد راقا
 من هذا البيت الافتتاحي تتضح لنا عوامل الاشتراك بين وقفة ابن زيدون و الوقفة الطللية في الشعر التقليدي : نجد تذكر الأحباب و الشوق لهم بسبب فقدهم و نجد التعرض إلى التحول بين الماضي و الحاضر . مما يولد تشابها في مستوى القصة و النفسية لكننا نعرف أن العصر غير العصر و أن المكان غير المكان فلابد لهذا من تأثير و من إحداث لجانب الاختلاف بين الوقفتين.
إن تصورا بسيطا لوصف مكان التذكر يحيلنا على اختلافه التام على مكان الوصف في القصيدة الغائبة هذا يتصف بالخصب و الآخر بالخراب. و كذلك نظرة أخرى إلى سياق القصيدة التاريخي و مناسبتها يدلنا أن الشاعر يزور موقع الزهراء وهو على أمل أن يعود إلى الحبيبة مادامت مستقرة في إقامتها المعلومة بينما أصحاب الوقفة الطللية يقفون ويستوقفون و يبكون و يستبكون و يخاطبون الجماد و يسائلونه لعظيم مصابهم: يعرفون أن الحبيبة قد رحلت غير أنهم يجهلون إلى أين . فنظن أن يعيش مثلهم الحزن و لكن درجته مخففة : لا شك إن عنده أملا في عودته إلى ولادة ودليلنا على ذلك قدومه إلى الزهراء موطن اللقاءات التي يحن إليها و يرجو استرجاعها في نفس هذا المكان الجميل .
نحكم على الموقع بالجمال لما يرد في الأبيات الأولى من وصف وتصوير له. لكننا نعرف أن عملية الوصف هي مرحلة تالية لحالة نفسية تسبق، تتسم في حالنا هنا بالإعجاب فيسعى شاعرنا عندئذ إلى إبلاغ ذات الشعور لمن يرسل إليه وصفه فماهي طريقته في نقل المكان؟
إن ما يقدمه لنا القول في البداية يكشف عن زاوية النظر التي يتخذها للتصوير فإذا هي إما من مكان مرتفع و إما من أحد مداخله بحيث يمكنه أن يتخذ أولا مشهدا عاما كليا هو مرأى الأرضي و السماوي المتصف كلاهما بالامتداد و الاتساع يقول الشاعر:

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا||| و الأفق طلق و مرأى الأرض قد راقا

أي مكان أصلح من هذا للانشراح  و الانبساط  حيث البصر يمتد إلى حدود الاتصال بين السماء و الأرض؟ فيه ينعزل الفرد الناس فإذ كل ما فيه مؤنس و مرافق إن كان نسيما يرفق بحالك و يشعر بما قد تحس  أو كان جدولا يقطع الأرض يواجهك بابتسامة و يعرض عليك مفاتنه كحسناء تراها تبتسم إليك و تكشف عن بعض من صدرها لإغرائك:
و للنسيم اعتلال فــــــــي أصائله ||| كأنه رق لي فاعتــــل إشــفاقا
و الروض عن مائه الفضي مبتسم|||كما شققت عن اللبات أطواقا
اتخذ الشاعر لرسمه إطارا محددا كما يحدد صاحب الريشة لفنه الإطار
فتمضي الأجزاء كلها متخذة أشكالها و قاطعة خطوطها لتتحول داخل إطارها نقوشا و طروزا مغروزة في فضاء اللوحة أو فضاء القصيدة أمينة في محاكاة ما في الموقع من دوافع للانجذاب و لكنها غير أمينة في نقل كل ما يرى و في ذاك نصيب لعين الفنان فوق عين من يشاهد.
سماوي
أرضي       
نتبين مما قدمنا أن القصيدة تحمل في طياتها عوامل نجاحها و عوامل انتشارها باعتبار أن ابن زيدون قد اسقط عليها مهاراته في الوصف و استخدم له الآليات الممكنة لتجعل من النص قصيدة شعرية و لكنها في حكم اللوحة الفنية.
لم يحمل الشاعر إلى استعارة آليات فن الرسم إلا لأنه أحس بالجمال المبثوث في كل ما يرى ، و جرت العادة مع المتوترين اللاجئين إلى الطبيعة أن يجدوا في جاذبيتها ما يعوضهم عن أحوالهم فهل يمكن لابن زيدون في مكانه الموصوف أن يخفف من أعبائه النفسية؟
يصف الشاعر الأجزاء الطبيعية و في نفس البيت مع كثير من  الأبيات يحيلنا على أحزانه نذكر منها بغض المثلة
كأنه رق لي فاعتل إشفاقا
و يقول في بيتين آخرين:
نلهو بما يستميل العين من زهر ||| جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقــــــــي ||| بكت لما بي فجال الدمـــع رقراقا
من البين أن معجم الحزن يسجل حضوره على امتداد الأبيات المذكورة ويتبين مدى التفاعل بين الطرفين : الشاعر و المكان و يتهيأ لنا أن البديهي في ظل ذات الموقف أن يتأثر الإنسان بالمكان وينفعل بحدوده ومشاهده لكن المسجل في ما نقرأ أن الاتجاه تحول من المفعولية إلى الفاعلية فأصبح الشاعر بمقتضاها يملك من التأثير ما يصيب حتى الكائنات الثابتة غير العاقلة و العناصر الطبيعية المتنقلة مثل النسيم . إنها جميعها بثت فيها الحياة و امتلكت من الإحساس ما يمتلكه الإنسان فيبكي ويرق و يعتل، الطرافة في هذا التشخيص أن الشاعر حمل مصابه فوق ما نتصوره : خرق العادات في أحزانه ، فخرقت آثارها العادة بما أنها ملكت التأثير فيما ليس عاطفيا و  ليس بعاقل فما بالنا بمن يملك العاطفة و العقل لا شك أنه سيمتلئ بشحنة عاطفية أعظم. و أثر نفسي أشد و أقوى. المقصود من وراء تغيير اتجاه الفاعلية و المفعولية بين الشاعر و الطبيعة التأثير غير المباشر في الوحيدة من يهمه أن يكون بينه و بينها تواصل الغريب في الأمر أنه استطاع أن يؤثر فيمن لا تربطه به أواصر الحب والتوافق و فيما لا يحمل من مقتضيات الشعور شيئا و من تربطه به
علاقة ممتدة و ذكريات مشتركة كأنه يتجاهله برغم أنه السبب الجوهري لأحزانه بفراقه له و عدم سؤاله عليه. إذن الشاعر يتجه في النص اتجاه قد نعتبره حجاجيا لكنه لا يخاطب العقل بل يخاطب العاطفة التي متى تأثرت حملت صاحبها كله إلى أن ينصاع لما تؤمن به. يلتجئ ابن زيدون إلى ذلك بحكم أنه قد أدرك مدى قدرة ولادة و مدى قوتها فهي المؤثرة في من يطلبها و هو المؤثر بقوة ما يشعر به في الطبيعة :
الناس ˃ الطبيعة ˃ الشاعر ˃ ولادة. يعي الشاعر أن إقناع ولادة قد يكون مستعصيا أكثر فيلتجئ إلى أكثر من حل في أيها قد ينجح.
من الحلول تلك استرجاع الذكريات له معها يقول:
يوم كأيام لذات لنا انصرمت ||| بتنا لها حيـــن نام الدهــــــر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر ||| جال الندى فيه حتى مال أعناقا
ماذا في هذه الذكرى سوى إعادة إحياء المشاعر و بعث الحنين إلى أوفات سعيدة تبقى النفس مع انقضاء كل الأحداث تعود إليها أو تعتبر من كوامن النفس تنتظر  من ينفض عنها الغبار في حين من الوقت يميل ابن زيدون إلى الحيلة عينها بل و يمضي فيها إلى ما أبعد لأنه يلحق بها تصويرا في البيتين اللاحقين لتضاريس المكان ولما ينتشر فيها من نبت و أزهار ومياه تحمل لو ما يزال الاستعداد إلى تكرار ما كان من اللهو و لو بجنون العشاق. المؤسف بالنسبة إلى الشاعر أنه يرى ما يرى و يستقبل فيه ما يجذب و لا يقدر أن يتمتع و لا أن ينجذب إليه باعتبار أن الجمال ذلك كله منقوص من أعذب ما يتصل به منقوص من الحبيبة فأي متعة له بعد لم يبق عنده سوى أن تهيج ذكراه و تزداد آلامه يقول في البيت الاختزالي:
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ||| إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
جمع الشاعر في الأبيات السابقة بين الطبيعة و ولادة فبديا مشتركين في شد اهتمامه و صنع أحزانه و أفراحه و احتل كلاهما موقعا كبيرا في حياته حتى أن احدهما يكاد يذكره بالآخر أو أن هذا يصح في وقت و لا يصح في وقت آخر كما عندنا في آخر الوحدة لما استدرجته المشاهد إلى الدمج بين الطبيعة و ولادة وجد نفسه أخيرا ينصرف إلى ولادة و تولى وصفها وحدها و التبرير الأقرب لسبب ذلك أن الحبيبة أهم من الطبيعة على قيمتها عنده فكيف تعرض إلى ولادة و علاقته بها؟ 
وضحنا أن لولادة في القصيدة المقام الأول و مع تذكرها و تذكر لهوه وإياها أقصى عن تركيزه كل ما يخالفها لأنه يحبها ويشتاق إليها كما يظهر في قوله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق