السنة الدراسية
2013/2012
معهد جمال طريق
بني حسان
دراسة
تأليف: نزار الديماسي
كلـــــــيلــــة
و دمـــــنــــــة:
فنية الكتابـــــة و إشغال الفــــكر
العنوان تحليل لموضوع نقترحه: ألف ابن المقفع
كتابه " كليلة و دمنة " على أساس المراعاة للبناء القصصي و فنياته ، و
التعمد إلى طرح قضايا تشغل حياة الإنسان و علاقاته
المقدمة
ألفت
كل الحضارات الإنسانية القديمة الرمز الحيواني ، و اتخذته وسيلة للتعبير إما في
أساطيرها و إما في دياناتها . فكنا نجد الآلهة ذات الشكل الحيواني [1]جزئيا
أو كليا و نجد ذلك في أساطيرها حيث نتعرض
إلى شخصيات و أبطال من الحيوانات[2]
قد وقع اختراع هذه الرموز للوعي السائد آنذاك بضرورة الفهم للكون أو للديانة. و أن
هذا إنما يحتاج إلى استخدام الصور المحسوسة من أجل التبليغ للرؤى و للمبادئ التي يتبناها المؤمنون كي تصل عند عامة الناس
متيسـّـرة الفهم.
في
حضارتنا العربية يختلف الأمر، ذلك أن الدين الإسلامي عارض تلك التصرفات من التجسيم
للأحياء و حرمها على من يتبعونه بالأمر و النهي و بالتطبيق
عند فتح مكة حيث قام الرسول ( صلى الله عليه و سلم ) بتطيم الأصنام
المعروفة في الجاهلية التابعة لكل القبائل. و مع هذا فإن حضور الرمز الحيواني لم
يغب عن ثقافتنا ، لأن التعويض وُجد عبر الوسائط التعبيرية في المخيال الشعبي[3]حيث
وقع تضمين شخصيات حيوانية في سير شعبية ،
و في الإبداع الأدبي خاصة في المعلقات و في كتابات الجاحظ و في كليلة
و دمنة الذي ألفه ابن المقفع على
أساس المراعاة للبناء القصصي و فنياته من
جهة و التعمد لطرح قضايا تشغل حياة الإنسان و علاقاته.
حسب
هذه الأطروحة نفهم أن المقال سيشتغل وفق محورين نتعرض إليهما تباعا ، فيركز أولهما
على الجانب القصصي وفنياته و ثانيهما على القضايا ذات الصلة بالإنسان و في
علاقاته.
1- البناء القصصي و فنونه في كليلة و دمنة
يتقدم
كتاب كليلة و دمنة لصاحبه عبد الله بن المقفع ، زمنيا المؤلفات القصصية المعروفة بأجناسها المختلفة كالأخبار والنوادر
و المقامات و حتى فن الترسل فنعتبره نتيجة ذلك من الكتب المؤسسة لفن السرد في الأدب العربي و الراسم للخطوط
الأولى له . و قد نتصور أن أصل ابن المقفع الفارسي قد ساعده على تحقيق السبق لما
تمتلكه الحضارة نفسها من غنى و ثراء في المجال القصصي خاصة[4]
فما
هي أهم المقومات القصصية و الفنية للكتاب
كليلة و دمنة الوافد على الحضارة العربية؟
1 – 1 البناء الثنائي
نجد
البناء الثنائي الظاهر في قصة كليلة و دمنة بناء طبيعيا لهدفها و لتعيين الشخصيتين
المتحاورتين فيها فكان المتولد عن ذلك بنى
ثنائية قائمة على رغبة الفيلسوف في إصلاح الملك المستبد كما يظهر من الحوار بين
الفيلسوف و تلاميذه "ولسنا
نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوءٍ إذا لقيته
بغير ما يحب. فقال الحكيم بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم، لكن ذا الرأي الحازم لا
يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يكتفي به في الخاصة
ولا ينتفع به في العامة. وقد صحت عزيمتي على لقاء دبشليم. وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين
لي نصيحتكم والإشفاق علي وعليكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً؛ وستعرفون
حديثي عند الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي. وصرفهم
يدعون له بالسلامة.[5]" و
في المقابل استعداد الملك نفسه رغم سلطانه للاستماع" قال
الملك بيدبا تكلم كيف شئت: فإنني مصغٍ إليك، ومقبل عليك، وسامع منك، حتى أستفرغ ما
عندك إلى آخره، وأجازيك على ذلك بما أنت أهله.".[6] ثم عند انطلاق الحكي تظهر الثنائيات المتبقية،منها :
ثنائية الطلب من الملك والاستجابة من
الفيلسوف و ثنائية القص من الفيلسوف و التقبل من الملك و ثنائية النصح و
الإرشاد و التقبل لهما ثنائية الحكمة و المعرفة و العقل في مقابل الصمت
و ضعف المعرفة .فأغنى ذلك الأسلوب الثنائي الذي سنظهره في العناوين اللاحقة.
1-1-1 ثنائية الحكي و التضمين
إن
قصة كليلة و دمنة تحيلنا بلا شك على حكايات " ألف ليلة و ليلة " حيث يقع
التداول بين الحكاية الأصلية و الحكايات الفرعية بين شهرزاد و شهريار لتخلص نفسها
و باقي العذارى من بطش الملك. نفهم من هذا التشابه أن الطريقة المذكورة قريبة من
الطبيعة العربية حتى عصر ابن المقفع
الموصوفة بتغليب الشفوي و المحكي و المروي على وسائط حمل الثقافة الأخرى. فبدا
عندئذ المقام المجلسي في بلاط الملوك خير رابط في النقلة القائمة بين ثقافة
الشفوي و ثقافة التدوين ليحدث بذلك
التزاوج بين الواقعي و الخيالي أو بين
المعقول و الخارق ،الذي سنتعرض إليه فيما
بعد.
إن
المجلس المقام بين بيدبا الفيلسوف و الملك دبشليم
متكرر بعد كل نهاية أو في كل بداية لمثل يروى بطلب من الملك مثال ذلك :"قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف، وهو
رأس البراهمة: اضرب لنا مثلاً لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، حتى يحملهما
على العداوة والبغضاء. قال بيدبا: إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب
المحتال، لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا. ومن أمثال ذلك..."[7] و مثله أيضا"
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد
بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين. فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما
آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد
رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؛ قال
الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم
صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم
وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد
الثور النمر."[8]
فيسترسل بيدبا الفيلسوف في الحديث و يقص ما يشاء و لا يقاطعه دبشليم الملك و كأنه
التلميذ الحريص على أخذ المنفعة كاملة. ما كان هذا ليحصل لولا تميز المخاطب و
قدرته على شد انتباه مخاطـَـبه: استطاع أن يجلبه إليه أولا باختيار القصص الممتعة
بانتمائها إلى عالم الحيوان من جهة و المصاغة بأسلوب يحمل على الإجادة. لهذا امتلك
أن يأسر الملك كما امتلكت شهرزاد أن تأسر إليها شهريار. فهل يعود هذا التميز إلى
كونه فيلسوفا و حكيما ؟ أو لم يكن في مقدور بيدبا النجاح بنفس الدرجة لو ما كان
فيلسوفا و كان بدل ذلك قصاصا أو خطيبا أو شاعرا أو ما عدا ذلك و ما أكثرهم في تلك
الفترة؟ ما قيمة أن يكون الجليس للملك في هذه القصة فيلسوفا؟
لقد
أخذت بيدبا الفيلسوف عزيمة ٌ قوية عادة ما تنتاب كل متقدم في العلم صادق الإخلاص لخدمة وطنه و أهله فيتقدم لأن يتحمل عنهم ما لا
يتحملونه و يعرض نفسه لغضب الحاكم أو السلطان و هو لا يرغب إلا في إصلاح وضع مرفوض
يدل على هذا ما ذكر في المقدمة من الكتاب بعد الإخبار عن انفراد الملك دبشليم
بالحكم و خوف الرعية منه يقول النص:
"وكان في زمانه رحل فيلسوف من البراهمة، فاضلٌ حكيمٌ، يعرف بفضله، ويرجع في
الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر
في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف؛ فجمع لذلك تلاميذه،
وقال: أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه.[9]"قد نفهم من القول
السابق أن بيدبا يمثل رمزا لكل العلماء والعارفين و مثالا للدور الذي ينبغي لهم أن
يضطلعوا به لكننا لا نظفر بالإجابة المقنعة الموضحة لسبب اختيار الفيلسوف حاكيا
دون غيره رغم أن بعض الاختصاصات غير الفلسفة قد تبدو أقرب إلى أداء الدور ذاته مع
الملك و تشويقه بقصص أكثر إمتاعا و تحميلا لنفس الرسالة. نقول هذا حتى و إن قرأنا
كلام بيدبا يجيبنا في حواره مع طلبته يبين فيه أهمية دور الفيلسوف حين يقول:"
وإن الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه
ولواحق المحذور؛ ويدفع المخوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب
لتلميذه يقول: إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر: إن سلم من الغرق لم يسلم
من المخاوف. فإذا هو أورد نفسه موارد المهلكات ومصادر المخوفات، عد من الحمير التي
لا نفس لها."[10] سنرد
القول إن ما قيل عن الفيلسوف ينطبق على الكاتب و الشاعر والخطيب و كل الوظائف العالية في مقامها آنذاك. نحتاج
في نفس الصدد أن نأتي بالحجة الدامغة التي تخرج الفيلسوف مع ما دار بين بيدبا و
دبشليم و حده من يمكنه أن يكون في أداء الدور الموظف له في القصة، و نشهد وقتها أن
واضع القصة سواء ابن المقفع أو من سبقه في إبداعها قد اختار الشخصيات بعد التفكير
و البحث لا بطريقة اعتباطية و لو في نقطة من نقاطها.
من أشد الوضوح أن الفيلسوف قد ارتبط بالعقل ارتباطا
كليا و لئن اشترك فيه مع غيره فإنه الأكثر اختصاصا به و الألصق إليه, قربه هذا من
العقل يجعله عند نفس المرتبة التي يحظى بها عند من يعترفون بفضل العقل الذي قد
قامت الأدلة على رفعته في أكثر من أثر نستشهد بأحدها رواية لعائشة في الحديث
التالي : " أخبرنا
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد والقزاز قالا أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
قال أنا محمد بن أحمد بن رزق قال حدثنا جعفر بن محمد الخلدي قال حدثنا الحرث بن
أبي أسامة قال حدثنا داود بن المجبر قال حدثنا عباد بن كثير عن ابن جريج عن عطاء
عن ابن عباس أنه دخل على عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر
رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إليك قالت سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما سألتني عنه فقال أحسنهما عقلا، قلت يا رسول الله أسألك عن عبادتهما
فقال يا عائشة إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة.
" [11]
و برواية أخرى وردت في كتاب الأذكياء:
" أخبرنا
محمد بن أبي القاسم قال أخبرنا أحمد بن أحمد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ
قال حدثنا عبدي الله بن محمد العيشي قال حدثنا وهيب قال أخبرنا الجريري عن أبي
العلاء عن طرف أنه قال ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من العقل." [12]
الربط بين الفلسفة و العقل ثابت لعله
من تسمية ابن رشد بفيلسوف العقل و ثابت بالكوجيتو الديكارتي و المقولات عند كانط
... فنؤكد عندئذ التزام المفكر و الفيلسوف أن يقع التغيير و الإصلاح بالعقل لا
بأدوات مخالفة حتى تبقى النتائج غير متعرضة للزعزعة و التأثير.
الفيلسوف مطالب
بالإقناع. يعتمد البرهان و الاستدلال و الحجاج. لأنه يعتقد الحقيقة في ما
يفكر فيقع أمام حتمية إثباتها وقد تكون الطريقة المتبعة من قبل بيدبا الفيلسوف في
كليلة و دمنة تعتمد الحكاية المثلية للغرض نفسه قصد إحداث الاقتناع بمضامين ما يرد في القصة .
فالحكاية المثلية إذن مصنوعة لا لغرض الحكي لذاته و
إنما لغرض تحميله موقفا يتبناه راويه يوعي به محدثه في نفس المجلس و كأنه المعلم
يعلم صبيه ما يحيلنا على تسمية أرسطو بالمعلم الأول عند العرب و على المحاورات عند
أفلاطون و التوليد السقراطي و جميعها قد نرى لها ضلالا في المحاورات بين بيدبا
الفيلسوف و دبشليم الملك.
نفهم مما طرحناه أن سبب
الاختيار على الفيلسوف ليس اعتباطيا و
إنما هو عائد إلى مجموعة من الدواعي ذات الصلة الخاصة به منها أنه ينتمي إلى طبقة
العلماء و الحكماء و أنه المختص بالعقل و الأقرب إليه و أنه من يدعي
امتلاكه للحقيقة في ما يرى و أنه
يأخذ من نفس المنبع الذي يأخذ منه المعلم الأول في الثقافة العربية و أنه يعتمد
منهجا في الحوار وجدنا أصوله في الفلسفة اليونانية ثم إن هذا الذي يحاور الملك لا
بد أنه يملك من الزاد و القصص ما يسمح له أن يحدثه طويلا و لا يجف منبعه و لا يضعف مصدره .
فكيف كان اتباع بيدبا
الفيلسوف لقصه الحكايات المثلية على دبشليم الملك؟
أصل قصة كليلة و دمنة
هندي و طرفا الحوار الأصليان فيها هنديان ، بينهما فيلسوف جـُـعل راويا لينطق
بالحكمة الهندية المختصة بالأمثال. يجمع
الحوار في القصة الأصلية الملك دبشليم و الفيلسوف بيدبا لغاية الإصلاح و إنقاذ
الرعية مما وقعت فيه من ظلم حاكمها. لكن الموقف ليس هينا : فإن كان الاستبداد
موجها نحو العامة و المجموعات البعيدة فكيف يمكن لهذا القريب الفرد و هو يحكي أن
يجنب نفسه غضب الراعي و يسلم من أذاه؟
لا شك، ذلك مرتبط بمدى
قدرة صاحب الحكاية على التأثير في سامعه من جهة، و على حسن تمرير المقصود في
الحكاية من جهة ثانية. يتضح لنا في هذا القول الاتجاه الثنائي في توجيه الحديث إلى
الملك : فهو إن كان من السذج و السفهاء قد يكتفي بالاستماع إلى ما يرويه إليه
بيدبا عن قصص الحيوان و يتسلى بذلك فحسب، لكنه إن كان يعمل عقله و يفكر في ما يروى
فلابد أن يفكك بعض الرموز و يفهم المقصد. عندئذ قد يعمل بما فهمه أو قد يخالفه . و
إن رفض العمل بالغايات من الحكايات المثلية فإنه قد يصب العذاب على الفيلسوف الضعيف
بقرار متعسف منه.[13]
نتبين هنا مدى حساسية
موقف الفيلسوف ، غير أن شعوره بالمسؤولية دفعة أن يقصي مهمته و لْيتحمل بعدها
أعباء ما ينتظره أو خير ما سطر له. و فعلا يتقدم هو لأداء دوره الذي قرره وهو يتخذ
جملة من المحصنات الأسلوبية في حواره منها هذا البناء الثنائي و هو يحكي حين يعتمد
ثنائية التمهيد و التنظير للوصول إلى السرد و ما يلعبه ذلك من عون له في استدراج
الملك للاستماع إليه فيكون قد كسب خطوة هامة نحو الهدف الذي جاء من أجله المجلس و
الدليل على ذلك أنه حسب ما تبين القصة أنه نجح في جعل الملك يقترح الموضوع و هو
ببديهته يستجيب و يتذكر ما قاله الحكماء السابقون في زمن لا نعلم أهو قريب أم بعيد. و لاشك أن هذا البناء الثنائي في
الطلب و الاستجابة كما قلنا يمثل عونا هاما في الهدف المعلوم. ثم تنضاف إلى ذلك
مهارة خاصة عند المحدث و هو يستجيب فلا ينطلق بسنده"زعموا.." مباشرة بل
كثير ما يقدم له بواسطة حديث نظري يصبح مرحلة استقطاب و دفع للمتقبل نحو التشويق
فلا تبدأ الحكاية إلا حين يسأله دبشليم الملك :كيف كان ذلك و نأخذ على ذلك مثالا
أو إثنين يثبتان ما نحن بصدده " قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف:
قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك.
فحدثني، إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض? قال
الفيلسوف: إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله،
والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ
والظبي والغراب. قال الملك: وكيف كان ذلك? "[14] و المثال الآخر:"
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل ، اضرب لي مثل الرجل الذي
يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها قال الفيلسوف: إن طلب الحاجة أهون من الاحتفاظ
بها ومن ظفر بحاجة ثم لم يحسن القيام بها أصابه ما أصاب الغيلم. قال الملك: وكيف
ذلك? قال بيدبا: زعموا أن قرداً يقال له ماهر كان ملك القردة وكان قد كبر وهرم
فوثب عليه قرد شاب من بيت المملكة فتغلب عليه "[15] ومثال ثالث يوضح أكثر ما نقول :"
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثل الملك الذي
يراجع من أصابته منه عقوبة من غير جرم أو جفوة من غير ذنب. قال الفيلسوف: إن الملك
لو لم يراجع من أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غير ذنب، ظلم أولم يظلم لأضر ذلك
ويخبر ما عنده من المنافع فإن كان ممن يوثق به في رأيه وأمانته، فإن الملك حقيق
بالحرص على مراجعته: فإن الملك لا يستطاع ضبطه إلا مع ذوي الرأي وهم الوزراء
والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوي الرأي والعفاف.
وأعمال السلطان كثيرة، والذين يحتاج إليهم من العمال والأعوان كثيرون. ومن يجمع
منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف قليل. والمثل في ذلك مثل الأسد وابن آوى. قال
الملك: وكيف كان ذلك?
قال الفيلسوف: زعموا أن ابن آوى كان يسكن في بعض
الدحال وكان متزهداً متعففاً"[16]
واضح أن الثنائيات في مستوى الحوار بين بيدبا و
الملك وردت مكثفة : ظهرت في البناء حسب الطلب و الاستجابة و في الطرح و العرض بين
التنظير و السرد و في اتقاء عقاب دبشليم بين التسلية في القص و الإصلاح في العبر
المتسربة وفي التضمين أو حتى داخل التضمين حين يروي دمنة نفسه في باب الأسد و
الثور حكايات مضمنة أو الغراب في باب
البوم والغربان . و ذلك ما كان يمثل عامل ثراء قصصي استحوذ به الراوي على القصة
بكاملها فتحول من مرتبة الأدنى بمفعول النفوذ و السلطان إلى المرتبة الأعلى بمفعول
الحكمة و المعرفة و البلاغة حتى يظهر الحاكم في حاجة إلى العالم و ليس العالم في
حاجة إلى الحاكم لأن الحكيم يملك المعارف
سواء بالواقع أو بالمحسوس و المجرد و المتخيل فيوظفه في قوله و نصائحه ورواياته
كما يبدو أن بيدبا استخدمه لما مازج بين الخيالي و الواقعي في الكتاب.
1
-1 - 2 : ثنائية الخيالي و الواقعي
تتكون القصة من شخصيات
ورقية ، و أحداث مترابطة لا مثيل لتسلسلها إلا في نصها. تتكون من أحداث نقر أنها
متخيلة هي من إبداع كاتبها و راويها رغم
أننا نجد ضمن أجناس متعددة إيهاما بواقعية الأحداث و تاريخيتها فيتجه الكاتب إلى تصدير خبره أو
نادرته بالسند المؤلف من جميع الرواة له سواء بأسمائهم أو بأعمالهم. و يضع لأطره
المكانية و الزمنية أسماء معروفة و بلدانا
يرتادها العامة و الخاصة. و أزمنة نعرف أن لها صلة بعهد آخر سلسلة الرواة . و مع
ذلك قد نتفق مع الأستاذ: توفيق بكار[17]
أن رواية الأحداث تكشف أنها مبتدعة متخيلة
و ليست من الواقع إلا ما ذكرنا من الأسماء و الأوقات فتصبح القصص فعلا مزجا واضحا
بين الواقع و المتخيل . لكن كتاب كليلة و دمنة
مع تضمنه للسند " زعموا " لا يبدو أنه يوهمنا بمصداقية الحكايات
على اعتبارها متكونة من الحيوان خاصة . فكيف يمكن النظر في التمازج بين الخيالي و
الواقعي في كليلة و دمنة؟
إن المحيط الكامل لقصة
كليلة و دمنة يتصف بالواقعية مادام يمثل لقاء أحد الرعية مع الملك يتدخل عنده من
أجل الإصلاح بعد مواجهته بالتجاوزات التي
يرتكبها ضد المحكومين. طبعا مثل هذه الجرأة على صاحب الأمر و النهي لا تمر بسلام و
تؤدي إلى سجن الجريء هذا ، و يهرب تلامذته إلى الأمصار و جزائر البحار:" فلما فرغ منه بيدبا
من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛
وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم
على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي
من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك
أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من
الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما
أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب
تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار"[18] و
كان الانفراج بعد ذلك فصفا
الجو للفيلسوف و كلفه الملك بتأليف الكتاب الذي هاجر بالحيلة إلى بلاد فارس ثم عن
طريق الترجمة إلى الحضارة العربية صاحبة الفضل في نشر الكتاب و خلوده بين الآثار
العالمية الخالدة. وتعود الترجمة إلى كاتبنا عبد الله بن المقفع. أطلنا هنا في
التلخيص و السرد لأهم الأحداث التي كانت وراء تأليف الكتاب والقصد من ذلك أن ما
يقع عرضه برغم التباسه بحكايات المغامرات و بالمبالغات، فإن مجمل الأحداث لو
أخذناها بالمنطق الإنساني و الواقعي قد تجد لها هامشا من القبول وهكذا فإن باقي
الروايات عن الحكماء الأصليين المنقولة عن بيدبا الفيلسوف قد تجد بدورها نفس
القبول بواقعية طرحها أمام الملك مادام مجالها الرواية الشفوية لكن مصدرها الخيال
لأنها تقص ما بين الحيوان و تقصد به الإنسان.
لو عدنا إلى النصوص في
كليلة و دمنة مما نراها ذات الصلة بالخيال لأنها تتناول عالم الحيوان ، فإننا لن
نصدق أنها قصة عن الحيوان بل هي تمنح الأدوار إلى أبطال من البشر و تضع عليهم
أقنعة في صورة الحيوان المقترح و المختار.[19]
فإذا هي شخصيات مقنعة و هكذا تظهر الاستمالة للقارئ أو المتخيل لأحداث الحكاية عند
روايتها و تتم دعوته إلى التجاوب معها. نحكم بذلك أن الشخصيات الحيوانية لا تستغل
من أجل التقية أو التهرب من عقاب الحاكم لأنهم في عصر ابن المقفع أبعد ما يكون عن
السذاجة الذهنية و السخافة الفكرية و منهم أبو جعفر المنصور من حكم على ابن المقفع
بالقتل كانوا لا تعوزهم الفطنة و لا ينقصهم الذكاء و النباهة و التفكيك للرموز
الصعبة لا الرموز البينة في كتاب كليلة و دمنة.
لم يستعمل ابن المقفع
الخيال في الكتاب لقصد التأمين على نفسه و إنما استعمله لمقاصد أدبية واضحة تتفق
مع ما عرف في الشعر و استتب عندهم مبدأ أساسا يعرف به الشعر. نتبينه في التعريفات من قبل
" أعذب الشعر أكذبه" و من قبل ما رسخه القرآن الكريم عن الشعراء أنهم
يقولون ما لا يفعلون. و ما عرفناه فيما بعد مع المتنبي حين قال يؤكد نفس العلاقة
بين الشعر والشاعر يقول:
إذا قيل شعر فالنسيب المقدم أكل فصيح قال شعراً متيم?
ونفس الموقف نلاحظه عند أرسطو حين
يتعرض إلى علاقة المشاهد بالمسرح اليوناني و تفاعله معه فيخترع لنا مفهوم التطهير
حيث يتخلص بانفعاله و تجاوبه من شدة الواقع و ألمه ليسمو بنفسه و يتحد مع ما يصبو
إليه.
الإبداع قد يكون في جزء منه بصنع
الخيال صانعا للجديد باعثا له مكونا للعالم مؤثرا فيه. مثلما يسعى ابن المقفع أن
يكون في كتابه عندما يتخيل بيدبا الفيلسوف أو عندما يستدعي روايات الحكماء
السابقين القائمة على الخيال و إسقاطها على مثال إنساني و نموذج بشري فيحتال دمنة
لنفسه كما يحتال الإنسان لنفسه و يجتمع سيد الغربان أو سيد البوم إلى مجموعته كما
يجتمع سيد القبيلة إلى أهله و يتشاور معهم و قس على ذلك جميع الأحداث التي هي جامعة
بين الخيال شكلا و الواقع مضمونا يساعد على ذلك استعمال الشخصيات و توزيعها بصورة
هي نفسها مقنعة لا يشعر القارئ بغرابتها و بابتعادها عن واقعهرغم أنها تتكون من
الإنسان والحيوان.
1 -1 – 3 ثنائية الشخصيات بين البشري و
الحيواني
ما دمنا اعتبرنا محيط القصة واقعيا
فإنه لا يقنعنا إلا أن يكون الأبطال من البشر كما هو الحال بين بيدبا الفيلسوف و
الملك دبشليم و التلاميذ ثم في رحلة الحصول عليه من قبل الفرس نتعرض إلى برزويه
الطبيب و الهندي الذي استضافه و كلاهما من البشر فنجد أن ذكرهم معا محكوم بالتتابع
الزمني و كأننا أمام رواية تاريخية انطلقت أحداثها مع احتلال الاسكندر لبلاد الهند
و انتهت بتحويل مقام الكتاب من الخزائن الهندية إلى الخزائن الفارسية. و في توزيع
الشخصيات الذكورة نلمس عديد الأدوار و الوظائف منها الفعل و المبادرة كما كانا عند
الفيلسوف و منها الانفعال و التأثر كما هو الحال مع الملك دبشليم فنصبح أمام علاقة
الفاعل بالمفعول بهو كذلك هو الأمر بين الطبيب برزويه و الهندي و ذلك ما يبني
علاقة التواصل و يساعد على تنمية أحداث القصة كما في مثال العلاقة بين طرفي الحوار
الأساسي : كانت العلاقة قائمة على التعالي و على عدم اعتراف الملك بجرأة العالم
عليه أي على الانفصال فتحولت بعد أخذ الفيلسوف الفعل لصالحه إلى اتصال و إعجاب
دبشليم بالقصص المروية له حتى أمر بجمعها في الكتاب و من هنا فهم أنه الملك في
حاجة إلى العلماء و الكتاب الذين يخلدون ذكر الملوك و الأمراء و قد تكون تلك
التدخلات المقتصرة على الربط بين الحكاية و الحكاية من صنع الراوي ليذكر في كل مرة
باسمه أو بمنصبه و فعلا تكون هذه الشخصية العلمية قد نجحت لا في أن تؤثر في الملك
فحسب بل نجحت أيضا لتؤثر في الزمن و تقضي عليه بإحياء ذكر شخصية يفترض أن صاحبها
لن يكون لها أي نوع من البقاء باعتبار أن نهايتها كنهاية كل البشر.
إدراك الملك لقيمة الكاتب و لسلطته
على الزمن دعاه أن يتخلى على علويته على بيدبا و أن يكلفه بالمهمة لصالحه تخدمه
كما خدمت سلفه ممن كتب عنهم.و تفتح لنا التعرف على الشخصيات المضمنة داخل دائرة
القصة حيث سنجد التنوع بين الشخصيات التي منها الحيواني و منها المركب بين
الحيواني و الإنساني و فيها جميعا نفس العلاقات البشرية من حيث الاتصال و الانفصال
ومن حيث الفاعلية و الانفعالية و البطل فيها جميعا من يملك القدرة على المبادرة و
على الفعل كدمنة في باب الأسد و الثور، و من يقدر أن يتعامل مع الحدث الحاصل له
فيتصرف فيه بحسب حكمته و ممارسته كالحمامة المطوقة أو القبرة مع الفيل ... و من
يطمئن إلى الأجواء المحيطة به بعد درسها كالجرذ مع الغراب و الضبي و السلحفاة و
جميعهم يحركهم العقل ليظهر من القصة ما قيمة هذا العقل و ما قد يفيد به صاحبه في
كل المواضع الطارئة عظيمها أو بسيطها و باستعماله يخلص نفسه لكنه لابد أن يدرك أن
استخدامه يكون في صالح الإنسان و خيره لا في الضرر به كما كان مع دمنة أكثر من
استخدم عقله لكنه استخدمه في الشر فأدى إلى هلاك الثور البريء و هلاك خليله كليلة
حزنا و كمدا عليه و في الأخير هلاكه شخصيا فإذا بالعقل عندا تستعمله الشخصيات في
الشر يكون مدمرا لها و لغيرها.
عالجت الشخصيات الحيوانية الخالصة ما
يرتبط بالإنسان و علاقاته و ما يتصل بسلوكه و بنفسيته و أحواله و بتبعيته للعقل
المريد و العقل النافع لكن الشخصيات حضرت في القصة بصفة مركبة و لعلها كانت لكشف
الشر الموجود في الإنسان و أثره السيئ في الحياة كما هو حال الصياد مع الحمامة
المطوقة و الجرذ ثم في الجزء الثاني من الباب ما صار مع الصياد و الضبي و السلحفاة
والجرذ و الغراب و كذلك الحال في قصة السائح و الصائغ فإذا بالإنسان رمز للشر و
الغدر و المكر بينما الحيوان رمز للوفاء و الصدق و الإخلاص.
إن التنوع في ذكر الشخصيات و أشكالها
بين المحيط و المساحة جعلها تؤدي دورا هاما في إثارة القضايا و الكشف عن صورة
الإنسان كما يراها الكاتب فتكون الشخصية هي المرآة للواقع الإنسني

بيدبا البوم و الغربان الحمامة و المطوقة و الجرذ


المتخيل الواقع
[1] عند المصريين القدامى: ابن آوى يسمى المعبود
" اتوبيس" و المعبود حتحور على
هيئة البقرة و سخمت على هيئة لبؤة زوجها
المعبود " بتاج "
[2] لشخصية الثور أو البقرة حضور
غير هين في المعتقد الديني فكانت تقدس على اعتبارها رمزا للسماء الواقفة على أربعة
أعمدة كأنها سيقان الثور أو الأرض المشدودة إلى قرنيه و مازالت بعض الديانات حتى
زماننا تقدس نفس الحيوان
[4] ترك الفرس القدماء آثارًا
كثيرة تعبر عن عنايتهم بالنصيحة والرمز من خلال الحكايات والأساطير، نذكر من
ذلك : كليلة ودمنة ذلك الكتاب الخاص بالنصيحة من خلال الرمز على ألسنة
الحيوان والذي نقله إلى البهلوية من الهندية الطبيب الفيلسوف (بيدبا) وذلك في عهد
كسرى أنوشروان؛ وهزار أفسانة: وهو الأصل الفارسي لألف ليلة وليلة ويدور حول المرأة
والعناية بشرفها والدفاع عنها ضد الظلم؛ ونصائح بزرجمهر وكلمات أنوشروان العادل
وهي نصائح في هيئة حكم وأمثال وحكايات قصيرة حيث اشتهر بزرجمهر وزير أنوشروان
بالحكمة، وكذلك بعض النصائح التي أثرت عن أنوشروان الذي اشتهر بأنه الملك العادل..
منقول عن موقع: www.marefa.org
[11]ا:
ابن الجوزي: الأذكياء ،الباب الأول: في ذكر فصل العقل ص 4 ( مرقون )
[12]
ن ، م ص 6
[13] عبد الفتاح كيليطو : زعموا أن:
فصل من كتاب : دراسات في القصة العربية ،
ص 183 : وقائع ندوة مكناس – بيروت : مؤسسة الأبحاث العربية 1986
دراسة جيّدة، بارك الله في علمك وعملك
ردحذفشكرا
حذفشكرا لتعبكم و اجتهادكم 🤚😁
ردحذفصراحة احسسو مسروق مدري ليه 😎😒🤨😎
شكرا على ملاحظتك. لكنك شكرتني إلى اجتهادي ثم نقلت إحساسك أن العمل مسروق. كيف يلتقيان؟
حذفطويل جدا 🤮🤮🤮
ردحذفومع ذلك لم أتمكن لو لاحظت من اتمام الدراسة
حذف