شاركت المرأة أبا هريرة ، تجربة الحس. قد التقى
بريحانة التي سباها لبيدُ في إحدى غزوات قبيلته بالحيرة"وهي لا تزال
صغيرةً مُرْسلة الشعرِ " اتصفت بالجمال " وكانت حسناء غريبة
الحسنِ كأن في عينيها نارا وبفيها ماءً حميما." رغب فيها الجميعُ فكانت
" تطْمِعُ ولا تطعِمُ" " أرادها لبيدُ في يومٍ من أيامِ الربيعِ
وقد تبرجتْ كعوباً فدلت ولاعبته ثم امتنعت وقالت : ضمأ على ماءٍ مرقوبٍ خيرٌ من
ارتِواءٍ." واستغلت توقه إليها وعطشه فاستدرجتهُ ، فحررها ولكنها أخلفت
وعدها " فغضب لبيدُ وقام يريدُها
بعصاهُ. فقالت ودلت وأخذته من يده : لو أعتقتني لكنت لك. ولكنك مولاي فليس لك من
نفسي. فظنها لانت ومالت فأعتقها فأمست ولم تصبح فجُنَ لبيدُ." كّلك فعلها
مع شبان الحي قد كان :" فكانت تعاشرُ الواحِدَ منا ثم تهجُرُهُ إلى غيرِهِ
وكانت في ذلك تُلقي لنا فنبْسُطُ الأيدي فتمْسِكُ عنا وتولي فتهيجُنا كغبارٍ في
يومِ إعصارٍ." ريحانة هذه الفتاة اللعوب تخفي مأساة أضلتها وأكلت أهلها.
قد أحرقت النارُ قبيلتها مرتين في العمان ثم في الحيرة ، لم تبق إلا هي ، أنقذها
لبيدُ وملكها ولكنها قادته بدلالها الوحشي إلى الجنونِ : جعلته يعيشُ يومه يطبق
طقوسا لعبادتها: يقول فيها شعرا لا يُميّـَزُ معناه ويجيء ويذهبُ بين شجرة سمرة
وداره يسعى بينهما كسعي الحجيج بين الصفا والمروى، ويضع عودا من الشجرةِ في فمِهِ
ثم يسقط منكبا على وجهه حتى يأخذه أهله فينامُ. غابت عن ذلك المكان فحلت في
الأماكن المقدسة بمكة وفعلت في أهلها ما فعلته بالأولين وكأنها تقصدُ أن تدنس
المقدس انتقاما لنفسها من القدرِ:" فإذا هي واللهِ ريحانتنا تغني وتلقي
إلى الناسِ فيبسُطون لها الأيدي، فتُمْسِكُ وتُعْرِض كما كانت تفعلُ بنا."
هذه ريحانة حبيبة أبي هريرة صنع معها ما عجز عنه
الآخرون : قادها وهو من كان ينصرف عن حياة الفجورِ ويكرس وقته للعبادة والقبول
بالواقعِ والإخلاصِ له. لقد طوع ريحانة المستعصية على الجميع أن تستسلم له وأن تخلص
له المحبة حتى أخريات حياتها حيث يكادُ وجهها يفرغُ من ماء شبابها:" وهي
يومئذٍ قد ضرب الشيبُ في شعرِها وأصابت وجهها الأخاديدُ ... تقول فكأنما تبكي وليس
على وجهِها إلا نفسٌ مسلِمةٌ راضية ٌ وكانت لا تتحدث ُ عن أبي هريرة َ إلا كان
آخِرَ قولِها : رحم اللهُ أبا هريرة َ ." يعكسُ ذلك عمق التجربة بين
الشخصيتين وينمي في القصة التشويق لمعرفة أسباب تغير ريحانة بين الماضي والحاضر
بين الفعلِ والمفعولية بين تلاعبها بالراغبين والطامعين وانقطاع أبي هريرة عنها.
من أجل هذا التشويق بدأ المسعدي تجربة الحس من محيط الأحداث وسطحها قبل أن يتدرج
بنا في أعماقها ومحاورها.
يعقب التقديم لريحانة صفاتها وحياتها وعلاقاتها مع
الناس ما سترويه هي بنفسِها عن مناسبة لقائها بأبي هريرة وتعارفهما في "
حديث التعارف في الخمر" فوجدته يشارك المحتفلين بقدومه طعامهم
وخمرهم ولهوهم لكنه ليس كبقية الرجال لم ينقبض منها ولم يتراجع عنها حين عرف من
تكون فسلمها قدحا من الخمر ودعاها إلى المزيد فصب عليها الزق كأنه يطهرها أو يعمدها على حسب ما في الديانة المسيحية يقربها
منه وينفض عنها ماضيها كله يحولها إليه بقدرته وقوته ويسلبها فعلها وقوتها:"وهممت
أن ألطم وجهه لطمة ً تذْهبُ بخمرِهِ فما كدتُ أهم به حتى آخذني واحتملني وأنا
أضطربُ فجعلني تحت سمُرَةٍ إلى الأرض وانصبّ َ عليّ َ فوجدته صاحيا من أشد الرجالِ
ثم شدني إليهِ حتى صِرْتُ منه... فجعل يرق ويحدثني ويقول: ما كان أحسن انصبابك على
الزقِّ . إلى أن طابت ريحُ الخمرةِ في ثيابي. ويبدو أن هذا اللقاء الأول قد
راق لكليهما فارتاحا لذلك واصطحبته إلى مكة ولزمته كما قالت ثلاثا لا يمكن ان تكون
إلا سنوات فعلام كان هذا التلازم بينهما؟
التعارف بين الشخصيتين الرئيستين تأسس على الجسد وعلى
الخمرة ورقة الحوار أي على المظاهر المادية للحياة البشرية وهو ما سيكون له تجليات
في أقسامٍ من الأحاديث في الرواية منها حديث القيامةِ حيث إشعالُ الشموعِ والهروب
إلى الفضاء الرحبِ واستغلال الجسدِ باعتباره وعاء الحس لإقامة الطقوس عبادة ً
وأداء الرقصات احتفالا فتحضر النارُ محورا تطوف بها الأجسادُ كما يطوف المسلمون
بالكعبة ووسيلة الإشراق أو الإنارة في الظلمةِ وأداة للإحراقِ الذي يسلب الحياة
والفرحة ولكنه في جانب آخر يغذيها لأن النار إذا لم تحرق فهي تنضج كما أنضجت
ريحانة حينما لم تحرقها وأحرقت أهلها وأنضجت أبا هريرة حينما احترقت زوجته فأحرق
بيته وانصرف إلى ريحانة فاستقر بقربها يواصل احتفاءه بالجسدِ الذي كان مثار
المباحث الفلسفية :بعض الفلاسفة يحتقرونه كأفلاطون وآخرون يعترفون له بموقعٍ إلى
جانب النفس كأرسطو. وغيرهم من جمع بينهما فجعل من الجسد والنفس مظهرين مختلفين
لجوهر واحد هو الله كما جاء عند سبينوزا.بينما الجسدُ مع الفلسفة الظاهرتية
الفينومينولوجية التي ترى أن الجسم موطن المعنى ومكان ولادته وأداة الدلالة والتعبير عن المعنى رمزا وعلامة. لعل هذا ما
استرعى اهتمام المسعدي فجعل نصه يولي كما يقول توفيق بكار :" فهذه القصة
ُهي فيما أعرف أول نص أدبي يطرحُ بمثل هذه القوةِ وهذا العمْقِ الفلسفي قضية الجسد
في المجتمع العربي الحديثِ." أصبح الجسد إلى جانب الغناء والشعر وسيلة
للتعبير ولا أدل على ذلك من الشعر الذي رددته ريحانة مغنية ً تستحضر الجسد حياة
وموضوعا ورمزا عن طريق القصة المعروفة عن أساف ونائلة من مسخهما الله تمثالين في
الحرم المكي منذ الجاهلية لأنهما أتيا الفاحشة هناك. لكن الجسد هذا هل يحافظ على
ألوانه وعلى تنوعِه فيسعِف أبا هريرة بالغنى الذي جربه لفترة ظ هل يُكتبُ لها
الدوام؟
مع حديث الحس تحضر تغييرات تقلب الأحداث وتأذن ببلوغِ
التجربة نهايتها ذلك أننا نلاحظ أول مرة انحدار العلاقة بين ريحانة رمز الحس
الدائم والمتعة تختلف مع أبي هريرة في أخذ المواقف حين جرب أبو هريرة المرض وحدثها
أنه وجد في علته ما لم يجده في صحته وأنه
خشي أن تعاوده الصحةُ فأجابته في ظل هذا الحوار الحجاجي معبرة عن أطروحة نقيضة
فقالت:" وهل في العلة غير الامحال وذهاب الماء يا حبيبي؟ قال لا أدري فقد
يكون وقد تكون العللُ من محييات الحياة." لقد جرب أبو هريرة في مرضه
الجسد وهو في غير مراحله السابقة حيث الانتعاش ودبيب الحياة ونشاط الحركة لقد جربه
عندما يصاب بالهزال ويدق حتى لا تكاد تشعر
به بل كأنه يكشف عن شريك يقاسمه الوجود إنه النفسُ يقول أبو هريرة مواصلا حواره
الخلافي مع ريحانة:" وقد ذهبت لي والله ساعات وأنا أقفو أثر الروح تنتقلُ
من يدي إلى رأسي أو منه إلى صدري وتتردد على الأعضاء والقلبِ والأمعاء تردد الفجرِ
فكأني أسبحُ في دمي يجري..." مع هذا الجسد السقيم يبدو أن أبا هريرة قد اكتشف
أن الجسد محكوم بالضعف وبعدم الثبات عكس ما يبحث عنه في مسيرته الوجودية التي يبغي
في نهايتها إدراك السعادة الإنسانية وفهم الحقيقة وملامسة برد اليقين اكتشف أن
الجسد الذي رحل إليه لم يعرفه بالسعادة إلا جزئيا بينما هناك مواطن أخرى لهذه
السعادة يكتشفها عندما يتخلص من حمك الجسد يقول شارحا لريحانة ما اكتشفه :"
وددت من زمن بعيد لو أني علقتُ بين السماء والأرضِ أو أني جلستُ على قمة جبل وقد
طلقته الأرض فطار. فلم أصب ذلك إلا في علتي تفك ّ ُ الجسد وتميز الأوصالَ فيخف
اللحمُ والدمُ فكأني في الخلدِ. إنه لا تكون الحياة ُ أبدع مما تكونُ بين العدم
والكيانِ ولا أقرب من طمأنينة السعيدِ." بدأت تصدر من أبي هريرة بعض التصرفات الغريبة فقد أصبح يقترب من
الأموات ويختلي بريحانة في المقبرة في المدينة لعلها البقيع وأصبح يفكر في نقيض ما
يشتهيه الجسد يفكر في الجوع بل إنه يسوق لريحانة أمثلة تعكس خداع الجسد كتلك
الجارية التي تراقبه عند طوافه ووقوفه أمام الحجر الأسود كأنها تغويه فأصابت منه
حاجة واستدعاها إلى ما بين الصفا والمروى ونزع عنها جلبابها الذي لم يرها إلا وهي
تحته فاكتشف أن الجارية نفسها التي توهم أنها جميلة " إذا هي من أقبح عباد
الله صورة وإلى ذلك صماء بكماءُ" قال :" فقلت لقد ضاع شعري
وانصرفت ولم أقل بعدها شعرا في امرأةِ قطّ" كل ما أصابه في نهاية التجربة
بدل أن يحمله إلى جوهر الحياة ويقينها نجده يرتد به ويعود إلى الحيرة التي
انطلق منها يقوده الشوق نحو البعيد يرمي بنفسه في حضن الجسد يكتشفه ويقلبه ليعرف
منه سر الحياة أو وجه الحقيقةِ فتميز عن رفاقه جميعا فنبذتهم ريحانة واحتقرتهم في
حين اختارت أبا هريرة وأخلصت له لأنه الوحيد من نظر إليها موضوعا يحتاج للدرس
والمعرفة بينما الجماعة المختلفون ظنوها جسدا للشهوة فطلبوا قضاءها فتركتهم على ظمأهم
او على ضلالهم لأن لهم طبيعة ً حيوانية يعيشون عليها. خلافهم أبو هريرة ( رحم الله
أبا هريرة ) أدرك أنه كيان فارغ لابد من نحته فعاشرها وهو يبحث ويسأل حتى أدرك أن
الكمال ليس في الجسد عليه ان يرحل ليستقر المقام به في تجربة جديدةٍ تنضاف إلى
سابقتها فكيف كان رحيله؟
الواضح في حديث الوضع أن ريحانة نفسها قد تغيرت
واستسلمت للفراق " فلما تغير أبو هريرة ورأيته يتجمعُ أصبح مستحيلا علي
واختلفنا" وذلك رغم ما أعلمتنا ريحانة عن نفسها أنها أصابها ما يلحق
الصوفيين من إشراقات يعرفون بواسطتها الحقائق وتتراءى لهم الحجبُ لكن الكشف الذي
يصيبونه هو من الغيب بينما مكشوفاتها هي الدنيا فكأنما هي مصدر كل شيء هي المفرد
التي يجتمع فيها كل شيء "حتى شرب المفردُ العدد ورأيتني نورا مشاعا."هذه
اللحظة من الانكشاف مع ريحانة قد تغني عن البحث لأنها فاقت الدنيا وفاقت النفس ولا
ترى للرحيل حاجة فيصيبها خلاف ما يصيب أبا هريرة الذي لم يجد راحته عندها فينسلخ
منها كما ينسلخ الثعبانُ من جلده يضعها كما تضع الزواحف بيضها فإذا البيت الذي
يخنقه ويحاصره من كل الأبعاد ولا يبقي له غير منفذٍ منه يدخل ويخرج ما هو إلا جسد
ريحانة يمنع عنه ما يتوق إليه وما يطلب أن يدركهُ اكتشف كلاهما أن طريقه ليست طريق
الآخر هي تصل إلى لحظات رفع الحجاب عن دنياها بينما ولينا الصوفي أبو هريرة ما
يزال في حاجة إلى رياضةِ جسده لبلوغ المرحلة الصوفية القصوى / حيث المنتهى وحيث
الكشف " فأدركت أنه عاوده الجوسُ"
يتخيل إلينا
في هذا الموضع قد وصل المسعدي طيلة الرحلة بين بطله الوجودي والمرأة لما تمثله المرأة
في الحياة فهي التي تحملُ وتضع كما حملت ريحانة شوق أبي هريرة وهي التي تلده كي
يتقدم درجة في مستوى النضج وهي التي يستهلكها من ولدته وتضحي من أجله ليكمل مسيرته
كما هو الشأن هنا لما علمت أنه يعزم للرحيل تركته لما يرى كما ترك الابن أباه
إبراهيم لما يرى مضحيا بنفسه من أجل استمرار الرسالة وتنفيذ أوامر الإله كذلك هي
الأبعاد الدينية تسجل حضورها في النص " إني راحل عنك " كأخذ العصا التي
تذكر بعصا موسى وكالتوقِ إلى الشمسِ بما يذكرنا بالنبي إبراهيم وهو يتنقل بين
الكواكب ليبدد الحيرة التي تكتنفه من ربه؟ لا يريد للشمس ان تتجاوزه لأنه بعدها
سيعرف أنها لم تكون إلا وهما لذلك يقول " إن استطعت فاجعل كامل حياتك
فجرا" الفجر بما هو زمن البدء في
الفعل لا الانغماس فيه كما في حال طلوع الشمس . هذه الشمسُ قد تحملُ إضاءتها معنى
الكشف والوضوح لكن سياق النص لا يساعد على تبني ذلك بل قد يعني الانبهار الذي يحجب
الرؤية التي نتصور أن أبا هريرة يعيشها الآن بحكم أنه يمر بلحظة انتقالية تأخذه من
تجربة الحس إلى تجربة تالية تغني التجربة الأولى وتضعه أمام شرف المحاولة حتى إذا
فشل. نفهم من ذلك أن الفشل عند البطل الوجودي لا يعني الهزيمة بل يعني المراجعة
وتعديل المسار للتقدم نحو المبتغى فماذا اختار لنا بطلنا الوجودي أبو هريرة في محطته الثانية لمعرفة نفسه وإدراك حقيقته
ونحت كيانه؟
مع تجربة الجسد رأينا أبا هريرة يكتشف الحبسَ والملل
والضعف والوهن، ويدرك أن جسمه ليس وحده من يمثله بل إن هناك نفسا تسري فيه مسرى
الدم. فننتظر من ذلك أن يتحرك في اتجاه ذلك ويستبطن الروح ويتبعها. غير أن أبا
هريرة يفاجئنا بل يراوغنا فيتحول من الجسد إلى العدد. فتلتجئ هنا إلى معرفة
العلاقة لنبرر النقلة.
قد نتبين لذلك عاملين : أولهما أن تجربة الجسد واجه
فيها طرفا واحدا ( ريحانة ) عرف منه أسرار هذه التجربة من بدايتها إلى نهايتها،
فيصبح هنا من المعقول أن يلتفت إلى نقيض الفرد في العدد : بعد أن عرف الضيق والحصر
لعله يعيش الاتساع والانطلاق يقول مخاطبا كهلان في حديث العدد:" إنه يا
كهلان إذا كره المرء الحصرَ والقطرَ طلبَ كثرة َ اليمّ واشتاق العدد."
أما العامل الثاني فإنه يعود إلى أنه انطلق مما هو
مادي فجربه في صورة من صوره حيث القلة بينه وبين ريحانة أو بينه وبين الندامى أو
بينه وبين المحتفلين وعبدة المادة فتبقى
له الصورة الثانية المؤسسة على المجموعة الكاملة ممثلة الوحدة والكثرة فأي علاقة ستكون بين أبي هريرة الفرد
والمقابلين له أصحاب العددِ؟
يميل الكاتب في روايته إلى إعادة توزيع الأحداث وعدم
المحافظة على ترتيبها كما هي عليه في الواقع. إنه في تجربة العدد ينطلق من حيث
انتهت من حيث خاتمتها ، من حيث أدركت فشلها من حيث سقط بطلها وألقى نفسه في
الصحراء رافضا للإنسان يقول حين عثر عليه كهلان هذا الرجل الصعلوك " كان
من صعاليك العرب وشداد لصوصها."
الذي أساء إلى أصحاب القافلة من أكرموه وأحسنوا معاملته فسرقهم وسلبهم ثم مضى في
عرض الصحراء شوطا كبيرا قاصدا أهم مخبإ له فيسمع في طريقه هاتف أبي هريرة وإذا
بجانبه الإنساني الآخر يثار ويفكر في ربح الثواب من الله فإذا أبو هريرة يصده
ويرميه بخطاب شديد العبارة وهو :" مستلقٍ والوهجُ يأكله أكل الحسناء
للعفةِ " يقول في كلامه:" دعوني يا أوضع من وهاد يا أضعف من عباد
يا أحقر من بعوض يا بني الإنسانِ."
إن ما نقدمه ما
هو إلا إثبات لما ذكرناه أننا في خاتمة التجربة ما يعني أن الكاتب اصطنع بنية
داخلية لنصوصه وأحاديثة لها منطقها الخاص في ظل كونه الأدبي: لايبعثر الأحداث
ويشوشها إلا وهو ينظمها بحسب إرادته لقد كسر النظام الزمني الذي يسمح أن ترتقي
الأحداث متصاعدة بالتشويق في ما ستكون عليه النهاية لكننا في مثالنا لا نجد نفس
التدرج الزمني بل إننا كما في القصص البوليسية نبتدئ بالنهاية حيث الجريمة ونطلب
متشوقين ماذا أدى إليها؟ فيؤسس ذلك إلى فنٍّ في التأليف هو بناء القص بالاسترجاع
والومضة الورائية التي قام لها محطتان للرواية تتفرعان عن المحطة الأصلية في حديثي
الكلب والعدد : من كهلان الصعلوك إلى الأصحاب الست يتبعهم الكلب إلى أبي هريرة.
يظهر من تعدد الروايات اختلاف في الأحداث يتعمد من
ورائه من يروي إخفاء صور مرعبةٍ ما يعني
أنه واعٍ بكل مساويها ولكنه مع ذلك يقبل عليها إقبال الراهبِ على العبادةِ. ذلك ما
كنا لنعرفه لولا الرواية الثانية المنقولة عن أبي هريرة في حديث العدد فما هي
قصتهم حسب الروايتين؟
رواية الأصحاب الست لكهلان:
يقع سرد هذه القصة بعد أن ترك كهلان أبا هريرة يلقي بنفسه إلى الموت في الصحراء
ولم يجد سبيلا إلى مساعدته وربح الثواب منه، هنالك يلقى الأصحاب الست يتبعهم الكلب
( ما يذكرنا بالآية : في سورة الكهف ) باحثين عن أبي هريرة فحملهم إليه. يسردون
عليه القصة بعد أخذ أبي هريرة الذي وجدوه" كالخلق
الطريح، وقد فنيت في عينه الدنيا." أخذوه " وكان الكلبُ
لا يبرحُ جانبَه ُ وهو في لهاثٍ كالمد والجزرِ"
بعد أن صبروا على علاج أبي هريرة وقد أصابته حمى لا يستفيق منها إلا قليلا فيقوم
ويردد عبارات تلازمه إما ما قاله لكهلان في المرة الأولى وإما قوله" فرعونُ أم اللهُ "
فيبكون ويقولون " مات سيدُنا "
كل ذلك كان لا شك يثير الغموض عند الراوي
الأصلي للحكاية كهلان كان لا يدرك أسباب ما يرى ويعيش لا يفهم ما يجر أبا هريرة
إلى ما يصنع. يشارك
كهلان الراوي في هذه الدرجة من المعرفة القارئ ( الرواية مع ) فمن يفك هذا الغموض
ويكشف السر؟ إنه الراوي العليم أو الراوي الشخصية : يتمثل في الأصحاب جميعهم ما
يعني أنهم تداولوا على الحكي ثم أخذ كهلان منهم رواتهم وتصرف فيها ليقدمها لنا على
لسان واحد هو لسانه. نتعرف في هذه الرسالة على حياة الناس قبل أن يحل بينهم أبو
هريرة يقولون:"كنا من شدة السنة في مثل
لهاث الكلبِ نطلب القوت بالسيوف ونكمن للقوافل والأحياء ويُكْمَنُ لنا ونغيرُ
ويُغارُ علينا حتى ذهب منا ومن أعدائنا."
قول شبيه بما ورد في خطاب جعفر بن أبي طال ب للنجاشي يقنعه بقبول المسلمين
المهاجرين إلى مملكته ويذكر تحول حالهم مما قبل النبوة المحمدية إلى ما بعدها جاء
فيها :" "أيها
الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع
الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف". فإذا كان للعرب نبيهم يرشدهم إلى
طريق الخير ويصلح جاهليتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور:" فكنا
على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى
الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان،
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم
والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا
أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" كذلك هو مصير الأحياء التي ينتمي إليها الرواة الستة
يأتيهم القائدُ المصلح من يخلصهم من شرورهم ويهديهم إلى نعيمٍ وجنات كانوا عنها
غافلين ولا يرونها وهي بالكاد عنهم لا تبعُدُ." فإذا
بأبي هريرة طلع علينا بكلبه وعصاه، فأقبل على الجثث يحثو عليها الترابُ ويحثو
كلبُه حتى وارياها جميعا ثم وقف فبكى وصلى لها وسجد كلبه."
كأنه هنا جاء يعلمهم دينهم أو كيف يراعون حرمة موتاهم على منوال القصة القرآنية
بين قابيل وهابيل لما بعث الله غرابين للقاتل يعلمانه كيف يواري سوأة أخيه فطوعت
له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه
كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي
فأصبح من النادمين} (المائدة}
بعد أن علمهم كيف يتخلصون من مظاهر
الشر عنهم ومن آثامهم، أخذهم إلى الحياة يقولون:" وحدثنا وحدث الحيّ حتى
طابت لنا الحياةُ وقام يهدينا حتى نزل بنا جنات ووديانا طاشت عنها أعيُنُ الناسِ
فهي على وجهِ الأرض وكأنها من السماء." كان أبو هريرة يتحول حسب رواية
الأصحاب بين القبائل فيخطب في أهلها ويعرض برنامجه لإصلاحهم يدعوهم إلى عدم القتال
يقول:" إن الذئابَ تلبست بدِمائكم، فأعارتكم وحشة وظمأ وجوعا وأنبتت
بأفواهكم أنيابا حديدا. فتآكلتم وتقاتلتم فلا القتل أروى ولا النهب أشبعَ والله
إنها لمن المعجزات : تفسدون وتهدمون
وتجعلون ما خلق الله دماراوأنتم لا تعلمون ما تطلبون .. ألا إنكم فؤوس الخرابِ."
لكن القول هذا لا يحظى بقبول الناس ويدعون أنه لا يغنيهم ولا ينفعهم فيستجيب لهم
أبو هريرة ويشير إلى أصحابه فيمطرون عليهم ما احتملوا " من الفواكه
والتمرِ والرند والريحان فيميلون عليه ركعا وسجودا فيعرض ويقول : كذا أنتم شر ووهن."
لكن الخير نفسه لا يحافظون عليه بل
ينسون من وجههم إليه وقربهم منه وأطلعهم عليه حتى أن الواحد منه يعترضه أبو هريرة
فيعرض عنه ويتصنع عدم معرفته له بل يتظاهر أنه لم يعرف قبلُ أحد بمثل هذا الاسم
فكانت النتيجةُ أن فارقهم بالصورة التي رواها لنا الراوي الأصلي أما الغريبُ في
هذا الأمر أن البشر تقبلوا الفراق وتناسوه في ما يبدو بينما الكلب أثمر فيه
المعروف وأطاع سيده لما أمره بتركه ولم يستطع بعده أن ينساه " فهو إلى
اليومِ يعوي ثلاثا عند الغروبِ وثلاثا عندَ الفجرِ وتسمعه القوافل ولا يراه أحد في
ليل ونهارٍ."
الرواية الواردة على لسان الأصحاب نفسها تدين الجماعة
ويظهر فيها الإنسان مختصا بالصفات المرذولة ناكرا للجميل، وقاتلا، وعدوانيا ومحبا
للمادة. فماذا سيظهر أكثر من هذه الإدانة في رواية أبي هريرة ؟
رواية أبي هريرة: ما رواه الأصحابُ ليس كل الحقيقة بل إن هناك حقائق َ
أخفوها لفظاعتها ولبشاعتها ولأنها تدينهم بشدة أقوى مما رووه بأنفسهم ما يثبت أن الرواية تبقى
ذاتية وأن الحقيقة نسبية وأنها ليست محل الثقة التامة إذا رواها عدد أكبر ما داموا
هم أطرافا فيها. لننظر إلى ما حذفه الرواة الأصحابُ ما يمثل وحشيتهم رغم الخير
الذي حملهم إليه أبو هريرة يقول:" فإذا النعمة ُ
ترشحُ بالشرّ والكنودِ وإذا هذا يفترش ُ عرض ذاك وذاك مائلُ النظرِ إلى امرأة
أخيهِ وآخرُ يجيلُ يده كل ليلةٍ في متاعِ جاره وذويهِ ولم يلبثوا أن نسوني." لم يكونوا يعرفون للجسد حرمة فإذا بهم بعد أن
بلغوا النعم الظاهرة يفرطون في الأعراض وفي الأموال وفي الدماء التي هي عليهم حرام
بل إن أبدانهم ذاتها لم لم تعد بمنأى عن شرورهم التي أصابتهم :" ثم خرجت ُ بهم إلى صحراء بيداء سماؤها خلاء فتاهوا وطرقوا بأنيابهم
واستحال الطعامُ فتآكلوا حتى ذهبَ أكثرُهم وبقي نفرٌ منهم... ثم عمدوا إلى أنفسهم
فنهشوا أيديهم وأرجلهم نهشا حتى ذهبت أفواههم وأنيابهم بأجسادهم جميعا كالنارِ
تأكل النارَ."
انطلق أبو هريرة
في هذه التجربة يحدوه الأملُ في الجماعة تملك القدرة يصنعُ أصحابُها ما يعجز عنه
الفرد يملكون الكثرة َ إذا اتحدوا يتعاونون على تطوير حياتهم وتنميةِ كل خيرٍ
يحصلون عليه. لكن معاشرة أبي هريرة لهم وقيادته إياهم وضعته على حقيقتهم وكشفته
على صورتهم عندما يخاطبُ كهلان فيقول له:" هذه
يا كهلان قصة الطالب الكثرة َ جئتهم فسألتهم روحا فإذا هم أفرغُ من نفخةِ إسرافيل وإذا أنا في وحشة القطرة من
الندى تغني على الغصنِ " خرج أبو هريرة من التجربة كما لم يبدأها :جاء يطلب
الإصلاح ويهدي الجميعَ إلى ما يراه خيرا ويوحد القبائلَ المشتتة والمتاقتلة
والمتناحرة فإذا به يرتد فردا لم يجن شيئا بل أوغلوا في العذاب فمال عنهم وطلب
الموت في الصحراء الخالية من معنى الحياة رافضا كليا الاعتراف بهم وإن كان مشفقا
عليهم:" ثم قام أبو هريرة فأخذ عصاه وقال: ارحمهم يا كهلان ولا تؤمن بهم.
السلام عليك يا حبيبي"
هذا الشعور نفسه
له ما يبرره في الواقع الذي أنشأ عليه الكاتب الرواية في عصرٍ تعرضت فيه الشعوب
العربية ذات الحدود المنفصلة إلى الاستعمار فتكبدت خسائره
ولم تراجع أخطاءها وظلت تنفر من مصلحيها تلبس أرواحهم قميص اضطهاد وتذعن للمحتل يسوسها كيفما يشاء بالعنف
وبالهوادة لا تحرك ساكنا إلا إذا كان الصدامُ داخليا بين الأهالي فإنهم يشعِلون
الفرقة بينهم. هل يكون الكاتبُ في هذا الشأنِ قد استحضر الفلسفات القديمة
والمعاصرة الأروبية تهاجم الضعف وتقصيه
كأفلاطون من لم يجعل في جمهوريته الفاضلة مكانا للضعفاء والمعوقين والمشوهين ورأى
أن على الدولة أن تتخلص منهم لأنهم يشكلون عبئا عليها. لم يعد حسب هذه التجربة
مكان للأخلاقِ الحميدة وللقيمِ : مثل ذلك في السياسة ميكافيلي يرى أن المكر
السياسي يتمثل في الوصول إلى الغايات بالتنازل عن الأخلاق والقدرة على إخفاء
الصفات المرذولة بمهارةٍ أما في المجال الاجتماعي فإننا نجد هوبز الذي وردت في
الروايات عبارات تدل عليه " إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئابُ" منطق عاش
عليه أصحاب أبي هريرة لم ينجح في ترويضهم ولم يقدر معهم أن يكون إله نيتشه الإنسان
الأرقى عاملهم بالأخلاق ففسدت حياتهم ولو عاملهم بالقوة لرضخوا له واستحالوا عبيدا"
حفنة من القوة خير من كيس من الحق".
لئن ظهر في الرواية ما تنعكس عليه النزعة النيتشوية
" فرعون أم الله " فإن المسعدي يتجه إلى تقويض الأخلاق بل بحث عن الحل
في منبع القيم عندما سيقوم بتجربة الروح مع ظلمة. فما هو مآل هذه التجربة الجديدة؟
لئن سقط أبو هريرة في
تجربة الحس فإنه لم يخل من اكتساب العبرة كون الجماعة متى غلب عليها الأنا وطلب
مصالحه عن طريقهم فإنه حتما يؤول إلى الفراغ. لكن طبيعة أبي هريرة الملتزم التزاما
وجوديا لا يعترف بالنهاية إذا لم يبلغ هدفه ولم يحققه لذلك فإن ابن مسلمة َ
السعْدي في حديث الشيطان يصف أبا هريرة فيسترجع توقه إلى الرحيل يقول:"
كان أبو هريرة كالماء يجري ، لم نقف له في حياته على وقفةٍ قط، كالمستعد إلى
الرحيل لا ينقضي عنه الرحيلُ" فإن كان هناك رحيل فهو رحيل إلى الجديد وهو
بحث عن المنشود وطلب للتغيير كأبي هريرة ما إن أصابته الحيرة، وغلب عليه الشك حتى
رأيناه يجوبُ الأحياء ويختلف بين المواقع ويقلع عن القديم ليحل في الجديد. إذا فشل
في التجربة التي يطول فيها المكوث لا يستسلم ولا يعلن نهاية مسيرته فشلا وهزيمة بل
إنه يعرف أن للإنسان جوانب باقية لم يعالجها ولم يرفع عنها الحجب ينبغي أن لا يفقد
الاتصال معها يسيرُ إليها ويعزم كعزمه في تجربة الحس ثم في تجربة العدد وها هو
يسعى إلى تجربة ثالثةٍ سبق أن كشف شعوره بها عند مرضه، وعند حيرته عن الحق والباطل
في الحديث الحامل لنفس العنوان لما تحدث عن أخته التي قست عليها الحياة فعانت
السقم والمرض :" وكانت ذات عاهات لا تدعها علة إلا أصابتها أخرى. وكانت
إلى ذلك بكماء صماء." واشتكت فقدان الحنان لأن أمها كانت تنكرها. وانقضت
حياتها فكان أبو هريرة في طفولته يظن أن الشيطان يتسبب في مصائبها لكن الإجابة من
الكبار صدمته " قالوا : هو الله"
يخوض أبو هريرة التجربة
الجديدة َ وهو يجر وراءه بعض المؤثرات منها ما يدفعه أن ينطلق فيها لمعرفة الروح
ومنها ما يثنيه عنها بسبب تجربة أخته ، لكن البطل الوجودي يرفض تبني المبادئ إلا
إذا تعمق فيها وتجاوز سطحيتها ولا يكتفي بما قيل له. لابد أن يمضي بنفسه حتى يُتِم
مسيرته، فيأتي الدور هذه المرة على تجربة الروح أو الدين أو الروحِ ضمن سلسلة
التجارب التي تقع في حدود الأزمة أو الاضطراب في بنية الرواية كاملة يتم فيها
البحث عن حقيقة الإنسان: ما بواسطته يكون الإنسان إنسانا وما على صورته يتم نحت
الكيان فما هو الدور الذي تساهم فيه هذه التجربة الثالثة في ما سيقع عليه القدرُ
من نحت الكيانِ؟
تجربة الدين في الرواية مدارها "حديث
الغيبة تُطـْـلـَبُ فلا تُدْرَكُ " أساسا تعرفنا فيه على ظلمة رفيقة البطل
نظيرة ريحانة في تجربة سابقة وبعدها نتعرف على المسيرة من الصعود فردا إلى النزول
مصحوبا بالراهبة فنجد بين هذه المرحلة ومرحلة الحسِّ صورا متناظرة نحصيها في
الجدول التالي:
|
تجربة
الحس |
تجربة
الروح |
الشواهد
من تجربة الروح |
|
المكان |
مكة حيث العادات
والتقاليد الصحراء حيث الامتداد البيت حيث الضيق
والعجز |
الدير : الارتفاع عن
الوضاعة الجبل صعودا ونزولا
رمز المعاناة الدهليز : بداية
المجاهدة الصوفية |
"أول عهدي بأبي
هريرة يوم طرق علينا بالدير وكان قليلا ما يطرق علينا لمنعة الجبلِ وشدة الدير
وعسره وانفصاله عن الأرض" |
|
الشخصيات |
مساعدة ريحانة رمز
الجسد والمتعة |
مساعدة ظلمة رمز العفة |
وكانت مع حر جمالها
نفورا شرودا تأبى الأنوثة وتتصنعُ طبائعَ الرجال فلما بلغت من السن ما يطغى فيه
الدم ويفيض الماء تمردت فترهبت ودخلت دير العذارى. |
|
المصطلحات |
الطعام، زق من الخمر،
يأكلون ويشربون، الألحان... |
راهبات،مسبحتي
وتسبيحي، شوقا إلى، استغفرت،الإخلاص، الأدعية،الصلوات
ذنوب المذنبين، الروح، فناؤها... |
" علميني الحمل
والولادة وسر توارث الأرواح أو غنيني وأريحيني أليس فيكم من يحذق ُ صنع الأصوات
تُحضر الآلهة َ وتكسّرُ الزمانَ وتشيعُ المحدودَ" |
|
البداية |
الانصراف عن الدنيا
بالإقبال على الجسد |
الانصراف عن الدنيا
بالهروب من الجسدِ |
" وأشارَ إلى ظله
: هروبي من هذا فرأيته يلوح إلى ذنوبٍ اعتلقت به. |
|
وسط الرحلة |
إشباع الشهوات في
القبيلة |
تعذيب الجسد |
" ثم لبس الصوفَ
ومكث فينا ستة أشهرٍ يكد نفسه في رهبنتنا" |
|
مؤشر الفشل |
المرض يكشف حقيقة
النفس تسري في الجسدِ |
جهاد النفس يكشف أن
التخلص من الجسد ضرب من اللهو والعبثِ |
" ثم بقينا أياما
بمحرابي والديرُ يحسبنا نتعبدُ ونبتهلُ وإنما كنا في الشيطانِ. وكان أبو هريرة
يقول: الآن علمتُ وعلمتِ أن اللذة َ لا تُغْلبُ" |
|
نهاية التجربة |
التخلص من أسر ريحانة |
إلحاق ظلمة به عند
نزوله من الجبل |
" قالت ظلمة:
فقلت وقد أخرجتني. فإذا للجسدِ مسّ ٌ الجديد المعاد الخلق. فلم يقل شيئا وضمني
إليه. ثم هبطنا الأرض." " آمنت من يومِ آمنت بالجسدِ وكفرت بالروحِ ثم
أسنت وفنِيت. فاشترت تيسا وكانت تقول أرتاحُ لنبيبِه." |
|
يترك أبو هريرة تجربة
الروحِ مؤمنا بالجسد،يبني كيان الفرد الإنسانِ، كما سبق أن غادر الجماعة وهو مدرك
أن الفرد لا ينجح إلا إذا انصهر في العدد بينما إذا قابلهم ولم يكن منهم عجز عن
الأخْذِ بأيديهم. كأن الرواية بعد خوض التجارب أغلبِها إرشادٌ أن الحياة لا
تستقيمُ إلا بتوازنها تعدل بين ما ينبني عليه الإنسان وما يقيم ماهيته لذا تبقى من
التجارب التي عرضها الكاتب عن أبي هريرة الطرف الناقص في ما نعرفه عن الإنسان
باعتباره كائنا ذا جسد، مدنيا، متدينا عرفناها ويبقى جانبه المفكر نعرفه في تجربة
العقل وما يمكن أن يؤدي في العقلِ إلى الفشلِ.
على خلاف التجارب
السابقة لا نرى الكاتب يبتدئ بالتلخيص أو بالنهاية ليكسر ترتيب الأحداث بل يتبع
ترتيبا طبيعيا يكون فيه أبو هريرة منفردا يقبل على البحر بعد أن تملكه الشيء
ونقيضه. يحط به المطاف في بيئة غير البيئة السابقة يصل إلى البحر الغريب عنه"
فهالني البحرُ" هناك يكون لقاؤه مع شريك لن يكون المرة هذه من الجنس
النسائي إنه رجل يدعى أبو رغال الذي يجد أبو هريرة أنه أمهر من عرف سبحا فعرض عليه
تعلم السباحة وقبل أبو هريرة دلك رغم قصر أنفاسه وقلة بلائه في الماء.
يبدو أبو رغال في هذا
الوقت معلم أبي هريرة السباحة في البحر ولكن هذا البحر ينبغي أن نأخذه على الرمز
فهو شبيه العقل أو الفكر يغوص فيه السابحُ
المتعلمُ الماهرُ كسباحة أبي رغال ويبدو فيه المبتدئ كأبي هريرة في الماء
قد يعسر عليه في الأول لكنه عندما يأخذه من أصحاب العلم سيصبح متمكنا منه فلنرى
كيف كانت البداية ثم كيف أصبح أبو هريرة مع البحرِ؟ يقول الراوي وهو أبو هريرة في
هذا الحديث حديث الحكمة:" ما الذي لك في البحر؟ قلت شيء من الروعةِ: قال
كذا عبيد الله جميعا، على خسة البحر أننزلُ فندخل الماء؟ فنشطت وقام فسلك منحدرا
بين الصخورِ الهاويةِ كأنه السراط لم أر مثله منحدرا شديدا. ونزلنا إلى الماء فإذا
الرجلُ يغوص فيسير في الماء غورا فينسابُ على القعرِ كالثعبانِ ثمّ يطفو كالذكرى
وشعر رأسه يسيل على وجهه ثم يتوسد الماء ويضطجع على جنبه ويندفع يطوي الأمواج طيا
فهو أمهرُ من عرفت سبحا" هذا الماهرُ في السباحة سيأخذ بيد أبي
هريرة وسيحوله مثله في القدرة عليها:" ثم لم يزل بي حتى علمتُ الماء كيف
يكثر القوة والنفسَ ويوقع في الأعضاء رقصا وكنا نغوص فنسيرُ معا فكأننا في سعة
البحرِ"
تلقى أبو هريرة من أبي
رغال مهارة السباحة في العلم والمعرفة في زمان يصلح لهذه السباحة زمان الصيف رمز
الحصاد وقطف الثمار. لذلك اكتسب أبو هريرة من هذا الصاحبِ ما يبحث عنه لكن الزمن
يتقدم ويتغير فيعقب فصلَ الصيف فصلُ الخريفِ رمز التغير والتقلب فما الذي قد تغير
وتقلب؟
نصب أبو رغال نفسه معلما
لأبي هريرة وهو من قدم عرضه وقبل به رفيقه أما في الزمن التالي فإن أبا هريرة فيما
يبدو كان يطلب معرفة الرجل فلم يرض له إلا بعد تردد حتى أنه عند بدء القصة استفسره
" أتحب القصص؟ قلت نعم. قال وتفهمها؟ قلت : لا أدري قال : فهي قصة
الحكمةِ." هذا الحوار في الحكمة يذكر بما كان بين علي وبعض المأمومين
:" وسئل علي كرَّم الله وجهه وهو على المنبر، فقال: لا أدري، فقيل: ليس
هذا مكان الجهال... فقال: هذا مكان الذي يعلم شيئاً ويجهل شيئاً... وأما الذي يعلم
ولا يجهل فليس له مكان. " أو كما قيل فإن لا أدري نصف
العلمِ، وكذلك الحال هو نفسه مع سقراط الذي كان يؤكد أمام محاوريه " كل ما
أعرف ... أني لا أعرف شيئا" فهل تكون لا أدري عند أبي هريرة هي التي يطلب منها العالم والمفكر والفيلسوف
الحكمة َ؟
سيروي أبو رغال قصته
وسيظهرُ فيها شبه كبير مما عرفناه عن أبي هريرة في تجربة الجماعة حيث أنه كان
أميرا في قومه ساسهم بالعنف والهوادة من أجل إصلاحهم لكنه لم يفلح فكان منه ما كان
لأبي هريرة من التخلص منهم تركهم وأتى البحر يشاركه الاتساع والقوة والغموض
مرحلة
العنف |
مرحلة
الهوادة |
الجور وظلم الناس حتى
أفناهم / مطلق الفعل / ينتظر الوحي / تعلم الحكمة / فلما تعلمت الحكمة جرت
فيهم فعشرتهم وافترشت نساءهم وسقيتهم علقما وخنقت عليهم حتى كأنها نقمة من
الله."/ ثم قويت واشتد بأسي ... فأمرت فضربت أعناق المرضى والضعفاء كلهم
والعمي والعرجى والمصابين جميعا وظننت أني أصيب به صحة فلما مثلت بهم فسجدوا
مؤمنين خاشعين أمسيت فلم أصبح . وكانت موتتي الأولى. ( فلسفة القوة ) |
التوبة وهو قائم في
غار حراء خشية أن يصيبه جوره/ دعاهم إلى إخراج الخير من الشر وإخراج الشر من
الخير فبارك قومه ذاك فغضب منهم وحلق لحاهم ورؤوسهم./ شرع لهم الفسق وأباح لهم
الفعل لينظر ما يصنعون فإذا هم متعلقون بأوهامهم أخيارا وأشرارا حتى المجنون
فيهم يبحث عن نجمه الذي قد يكون غاص في الترب.حتى أمه جاءها فلم تفهمه فماتت في
نفسه، يقول " خرجت وقد مت موتتي الثانية." |
مع قصة أبي رغال التي يسترجعها يبدو أن مد
التواصل بينها قد عرف جزرا ولم يعد يقبل حديثه لا عن الصخور ولا عن الأجرام
والسماء ولا عن البحر والجسد والروح بل أصبح يسايره خوف جنونه:" وكان في
عينه وهو يقول كمثل نور النبي يوحى إليه، فقلت نعم ، وأنا لا أجرؤ على الامتناع
خشية جنونه."وكذلك الأخر يراه مجنونا :" ثم قال أنت مجنون ،
فارتعت وانزعجت... وخفت أن يكون ذلك حق اليومِ أو غد... وأردت الانصراف فقال أحب
أن تصبر حتى أهديك شيئا ثم غاب في الجبلِ فجاءني بقلم وقرطاس وقال قد تحتاج إليها
يوما فتجعل عليها خطوطا ودوائر ونقطا في وسطها بياض . فأخذتها وانصرفت مظلم العقل
والقلبِ ."
- اِنقلب التّواصلُ والانسجامُ بين المتحاوريْن انفصالا:
اِختلفا بل تناقضا في ما يَريان ويُدرِكان. وصار كلٌّ منهما يعتبر الآخرَ مجنونا.
- كان الاضطرابُ النّفسيّ العنيف عند أبي هريرة لِخوفه من
نتائج التّجربة العقليّة.
← مثّل أبو رِغال صورةً لمستقبَله القريب
أو البعيد. وهي صورةٌ مُرعِبة مُهينة بالنّسبة إلى كائن وُجوديّ طَموح إلى
السّعادة الكلّيّة القُصوى.
- اِنتهتِ التّجربةُ بقرارٍ عقلانِيّ يرى «النّهايةَ» أهونَ من الجنون وأقلَّ منه مهانةً.
- يرمزُ القلمُ والقرطاسُ والخطوطُ والدّوائرُ والنّقطُ
إلى المكتوب: كلُّ الحكمةِ الإنسانيّة المدوّنة خاويةٌ بلا معنى ولا غاية.
← تجربةُ الحكمة أوْرثتْ أبا هريرة جوعا
قلبيّا وعقليّا انضاف إلى جوعِ الرّوح أوّلا وجوعِ «العدَدِ» ثانيا وجوعِ الجسد ثالثا.
التّقويم:
- لَمْ يصلْ أبو هريرة مرحلةَ الجنون الّتي أدركها،
بالنّيابة عنه، أبو رِغال. ظلّ هذا «البطلُ
الوُجوديّ» حاضرَ العقل حتّى
يختارَ بنفسه النّهايةَ (الموتَ).
- الفشلُ الرّابعُ كان الأقسى والأمرَّ لأنّ أبا هريرة
أصبح بعده حُطاما لا يستطيعُ إنشاءَ تجاربَ أخرى، وإن استطاع إنشاءَها لن يستطيعَ
خوضَها: إذ لا وُجودَ ولا حياةَ لِمن ضيّع العقلَ.
- أكسبتْ تجربةُ الحكمة شخصيّةَ أبي هريرة طابعا مأساويّا:
لقد كابد الفعلَ تخطيطا وإنجازا وهزيمةً، وكابدَ الألمَ جسدا ورُوحا وعقلا.
فكأنّما هو يسيرُ إلى نهاية مأساويّة بعد الوجودِ العبَثِيّ سيرا حتميّا لا رادَّ
له.
- سيكون موتُه «بعثا
آخِرا» بعد «البعث الأوّل» الّذي هو ولادةٌ مجازيّة تحقّقتْ لَمّا
بدأ أبو هريرة سلسلةَ التّجارب الوجوديّة.
← اِنفتحتِ الرّوايةُ بِـ «حديث البعث الأوّل» وانغلقت بِـ «حديث البعث الآخِر». الأوّلُ يفترضُ
وجودَ«ثانٍ» وربّما «ثالث» لأنّه اسمُ عدد رتبيّ يُرتّب أنواعَ
البعث. و الآخرُ يفترضُ عدمَ وجود تالٍ. هو كنايةٌ عن«العدم».